الرباط -المغرب اليوم
مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ارتفعت وتيرة نشر مستعملي هذه المنصات لصورهم الشخصية. هناك من ينشر صوره بدون أهداف محددة. وفي الآونة الأخيرة، برزت عيّنة من مستعملي مواقع التواصل، من كتاب وشعراء ومثقفين، ينشرون صورهم الشخصية مع تدوينات هادفة. فما المغزى من استعمال هؤلاء لصورهم الشخصية في صفحاتهم؟
في ورقة بحثية أعدها سعيد بنيس، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، بناء على استقصاء آراء عيّنة مصغرة من رواد منصات التواصل الاجتماعي؛ منهم كتاب رأي وباحثون وشعراء وطلبة وناشطون مدنيون وإعلاميون، تبيّن أن نشر الصورة الشخصية مرفوقة بتدوينة هادفة، تتطرق إلى موضوع معين، ينطلق من منطلق تحقيق غاية معينة، هي الرقي بالنقاش الرقمي.
وانطلق بنيس من فرضية مفادها أن العينة التي استجوبها توظف الصورة الشخصية مع مضمون راق يرفع من مستوى النقاش الرقمي والرأي العام الرقمي، في مقابل رواد آخرين يوظفون صورا في جميع الأماكن ولجميع الأشياء دون مغزى معين؛ “وهو ما يجعل من الفضاء الرقمي فضاء سالبا وغير إيجابي”.
وأوضح أن تقاسم الصور الشخصية غير القائمة على مضمون، مثل صورة لشخص يأكل أو يمسك بـ”دلاحة” أو شيء من هذا القبيل، لا تعمل إلا على تمييع آليات الترافع والتدافع الرقمية.
وبخلاف ذلك، يردف المتحدث، فإن مَن يتقاسمون شعرا أو قولة مع صورة أو صور شخصية تلائم المضمون الكتابي، فإن الصورة تخلق تركيزا رمزيا للخطاب وتدخل المتلقي في نوع من التبادل الإنساني أكثر حميمية”، مبرزا أن الخطاب الجاد المرفوق بالصورة الشخصية يمكن من “تصويب التداول والتقاسم والنقاش الرقمي”.
وحسب آراء المستجوبين، فإن إرفاق التدوينة الهادفة بصورة شخصية لصاحبها، يعطي للخطاب المكتوب مصداقية أكبر ويقرّبه من المتلقي؛ ذلك أن الصورة الشخصية تلعب دور أداة لربط علاقات شبه عائلية، لأنها بطريقة غير إرادية تخترق الحميمية. كما أن توظيف الصور الشخصية في التدوينات، برأيهم، هو تأكيد على مصداقية الحساب “ماشي فوكونط”.
قوّة الصورة
ويظهر من خلال إجابات أفراد العينة التي استقصى بنيس آراءهم أن الصورة تتمتع بقوة كبيرة كأداة لإيصال الرسالة المراد إيصالها إلى المتلقي، حيث أفضى بعض المستجوبين بأن العمل الصحافي علمهم أن الصورة تكون لها أكثر من دلالة في أي مقال؛ ذلك أنها تكون دوما بمثابة مغزى أساسي في صياغة أو إثارة أي موضوع.
ويوضح بنيس بأن الصورة أصبحت ضرورة ملحّة مع التطور التكنولوجي ووفرة مواقع التواصل الاجتماعي؛ “لأن البصر سابق للقراءة ويوجه المعنى والمغزى الملخص للموضوع، فاضطلعت الصورة بدور محوري، لأن غالبية المتفاعلين لا يقرؤون بل ينظرون إلى الصور. لهذا، بات الإقبال على الصورة أكثر أهمية من مضمون التدوينة أو المقال، لا سيما بعد أن تغلب جمال العين على التمعن فيما هو مكتوب أو الاكتراث لعمق المضمون”.
ومن زاوية مغايرة، يضيف أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، يمكن للصورة الشخصية في أحيان كثيرة “أن تشكل المصدر والدافع لكتابة شذرة أو قصيدة أو تدوينة أو خواطر مسائية أو صباحية”، مبرزا أن “فيسبوك حل محل الألبوم الشخصي واليوميات الموثقة”.
واعتبر بنيس أن مواقع التواصل (فيسبوك وواتساب وتويتر…) تُعدّ بمثابة فضاءات تعبيرية ساعدت على ظهور نوع جديد من الكتابة والتدوين يتأسس على تأريخ اللحظة؛ وهو ما لم يكن متاحا في ما مضى قبل ظهور هذه المواقع، حيث ذكر بعض المستجوبين أنه لم يكن من عادتهم أن يأخذوا الصور بالوتيرة نفسها وبتعدد الأماكن والوضعيات.
ومن هذا المنطلق، يستنتج بنيس “أن الصورة الشخصية في بورصة السوق الرقمية تساوي تدوينة وتضاهي المضمون والموقف والتصور وكل ما يمكن أن يحتمل دلالة، خصوصا أن الفرد أو الشخص لا يختفي وراء صورة نجم أو نجمة أو حيوان أو منظر طبيعي؛ ولكن ينكشف للجميع ويتحمل مسؤوليته في التواجد والتساكن بالمعنى السارتري الوجودي”، مشيرا إلى أن “أغلب الصور المعروضة هي لصور في أنشطة مدنية أو علمية أو مجتمعية”، حسب المستجوبين.
ومن بين الوظائف التي تلعبها الصورة الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، حسب بعض المستجوبين، أنها “تُكمل النص وتعطيه أبعاده العميقة”، حيث يمكن أن يرفق صاحب الصورة صورته بنص للدلالة على أن النص من توقيعه.ويفسّر أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس هذا الترابط بالقول: “الصورة الشخصية في هذه الحالة، إذن، هي بمثابة توقيع وفي الآن نفسه أداة تعبيرية.
مغامرة إظهار الجسد
وبالرغم من أن رواد مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون صورهم الشخصية بشكل واسع، فإن الأشخاص الذين يوظفون صورهم الشخصية على حسابهم في “فيسبوك” من أجل “الرقي بالنقاش الرقمي”. وبالرغم من أنهم ينشرون صورهم أثناء العمل وكذلك صورهم خارج العمل في أماكن مختلفة وفي أوضاع متنوعة، فإنهم لا ينشرون منها إلا ما يمكن اقتسامه مع الجميع ويجعل التواصل مستمرا لا غير”، حسب إجابة بعضهم.
ووفق ما جاء في الورقة البحثية التي أعدها بنيس، فإن من يشتغل في التلفزيون، أي أساسا في ميدان الصورة، فقد افترض أنها أبلغ من الكلام، سواء كان تعليقا مكتوبا أو حتى مسموعا. وبما أن الفضاء الرقمي يقوم على الصورة فإنه يحاول أن يحافظ على ذلك الخيط الرابط بينه وبين الجمهور مع الإبقاء على المسافة اللازمة بين حياته الخاصة وحياته العامة؛ وذلك بنشر وتقاسم صوره إذا كان هناك ما يدعو إلى جدوى نشرها في زمان ومكان معين.
في المقابل، يضيف المصدر نفسه، هناك من المستجوبين من لم يطرح سؤال توظيف الصورة الشخصية على نفسه من قبل؛ لكن بالنسبة إليه هناك اقتباسات كثيرة مما قرأ، وعندما تصادفه صورة شخصية أو غير شخصية تستفز ذاكرته يبحث عن النص سواء اختزنته ذاكرته أو دوّنه سابقا. لكن عندما لا تكون للصورة علاقة بالنص من حيث الشكل أو المضمون فلا تهمه، ولا ينشرها إلا في ما ندر. ومرد ذلك بالنسبة له هو تلك العادات الافتراضية المكتسبة كما هو حال العادات في المجتمع الواقعي.
وانطلاقًا من أجوبة المستجوبين، خلُص أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس إلى أنه يمكن إعادة تعريف الصورة الشخصية الرقمية بأنها تشكل نوعا من أنواع التعاقد في العلاقات ومساهمة في تجويد منطق وبراديغم الفضاء الرقمي، وانخراط صاحبها واستعداده لأن يكون في متناول الآخرين وليس قابعا في برجه العاجي فتصبح في هذا السياق الصورة الشخصية في جميع حالاتها السائلة ملكية للآخرين.
ويوضح بنيس بـ”أن الصورة الجميلة والصورة المعبرة والصورة الثائرة والصورة التي يظهر فيها كل الجسد أو فقط نصفه، أو التي تمجد الجسم الأنثوي أو الذكوري المتحرك في اللاوعي، أضحت تنافس الصورة الواقعية وتتساوى معها في حيادها وابتعادها عن الذاتي، لأن التموقع السائل في الفضاء الرقمي يعبر عن التواجد المستمر والمتواصل والحثيث وجسرا للحظوة والتميز المجتمعي “إلا ما بانتش الصورة ديالك بحال إلا مادرت والو خارج الفايس”.
مغامرة “إظهار جسدك” على مواقع التواصل الاجتماعي تساوي، كذلك، يردف بنيس، إعلان الشخص أو الفرد عن “نوع من التحرر” و”تحدي للآخر”، وطريقة لإقناعه بمضمون النص المرافق للصورة؛ غير أنه استدرك بأن “هذه المغامرة تبقى محفوفة بمخاطر التنمر والتمييز والوصم والتحرش والازدراء، وهذا ما يشكل الهوامش الرمادية التي يمكن أن تنتج عن توظيف الصورة الشخصية في مجتمع سائل تمخض عن فضاء رقمي مفتوح على جميع الاحتمالات”.
قديهمك ايضا