الرئيسية » مراجعة كتب

الدوحة ـ وكالات

تبدو رواية "صفحات المهزلة" للتونسي خير الدين جمعة وكأنها رصاصة أطلقت على قفل بوابة صدئة يتوارى خلفها تاريخ سري للسياسة العربية من الثمانينيات إلى اليوم، يفتح جمعة البوابة التي لفّها الصمت الطويل ليظهر لنا قبح هذا التاريخ السياسي ومراراته حتى بالنسبة لمناضليه، بعيدا عن نزعة الأسطورة والبطولة. تأخذ الرواية -التي صدرت حديثا عن دار أمل للنشر بتونس- صيغة المذكرات الشخصية للسياسي "زهير العيادي" الذي يعود إلى تونس من بلاد الشام ليقبض عليه ويجري التحقيق معه بشأن نشاطه السياسي هناك أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وانطلاقا من هذا الحدث يأخذ الراوي في تأمل حياته السابقة بداية من أحلامه السياسية الطوباوية، مرورا بفترة النشاط السياسي الطلابي في الجامعة التونسية، حتى قصة طرده من التنظيم السري وتهريبه إلى سوريا خوفا من الاعتقال والتحاقه بالمناضلين الفلسطينيين في لبنان وسقوطه في يد مجموعة من المرتزقة ليخسر مرة أخرى آخر أحلامه الطوباوية. رحلة طويلة من الأحلام أجهزت عليها الخيبات السياسية ليجد نفسه في مرحلة من العمر وقد جمع كل الخسارات القطرية والقومية، ولم يعد أمامه إلا أن يعود إلى تونس ليدفن تلك الجثث الكثيرة التي كانت تسمى أحلاما، فوجد في استقباله آلة القمع البوليسي تذكره بكل تلك السيرة الخطرة، وأن جنسيته التونسية لا تكفي لكي تفتح له بوابات البلاد وأنها فقط تجعلهم يفتحون معه تحقيقا قاسيا. لم يكتب خير الدين جمعة رواية تاريخية -وإن اضطلعت الرواية بهذا الدور في التأريخ للحراك السياسي في الجامعة التونسية- إنما كتب رواية تونسية راهنة، فما يعيشه المشهد السياسي التونسي اليوم ليس في الحقيقة سوى "فلاش باك" لما كان يحدث في الثمانينيات وبنفس الوجوه تقريبا التي كانت تتصارع في فضاءات الجامعة وعادت إلى الساحة السياسية بعد الثورة بنفس الخطابات والصراعات، وهذا هو مأزقها الفعلي. رواية خير الدين جمعة -المقيم بالإمارات العربية المتحدة- رواية حداثية تقطع مع السرد الكلاسيكي والزمن الكرونولوجي فتتداخل فيها الأزمنة في مشاهد سردية قوامها لغة شعرية تأملية أحيانا ولغة براغماتية في أحايين أخرى، لكنها تؤدي وظائفها بدقة في حياكة نسيج النص ليخرج محبوكا وشديد التماسك على الرغم من كثرة الشخصيات والمواقف. في الرواية تتزاحم شخصيات كثيرة، بعضها من أزمنة النضال الطلابي القديم مثل "زهير العيادي" بطل الرواية، وصديقته "نيتشه" الطالبة المتحررة، وأعضاء التنظيم السري علي الصحراوي و"المنصف" و"رضوان" و"حمادي"، والبعض الآخر من تجربة الحرب اللبنانية مثل "جزيل" العراقية و"ميلود" الجزائري و"أبو علي" وغيرهم من الشخصيات الأجنبية والعربية. وقد اختار النص طبيعة حواره، فكانت الرواية بانوراما من اللهجات العربية التي جمعتها الحرب الأهلية في لبنان من تونسية وجزائرية ولبنانية وفلسطينية وعراقية إلى جانب اللغة الفرنسية والإنجليزية، وقد نجح جمعة في إخراج تلك التوليفة المختلفة من اللهجات واللغات، فكانت الشخصيات تعبر كل منها عن هويتها وانتمائها. وقد تنوع الاشتغال على اللغة في مستويات متعددة لعل أهمها التشفير السياسي في التنظيمات السرية، وكشف الروائي عن معجمها الخاص، حتى إنه لم يشر بشكل واضح إلى اسم التنظيم السري الذي كان ينتمي إليه بطله، لكن من خلال ذلك المعجم الذي يتكلم به أعضاء التنظيم يتمكن القارئ من التعرف عليه بسهولة، خاصة من خلال لازمة الاتهام الشهيرة "أنت ليبرالي" إلى جانب استبعاد الشخصيات الإسلامية واليسار. وتبقى ملامح التنظيم القومي بارزة قبل حتى الإعلان عنها في قوله على لسان أحد الشخصيات: "لا تهرب من الموضوع يا زهير.. أنت من ركز التنظيم وبناه.. وحين شعروا أن دورك يتعاظم وخطرك يزداد أرادوا التخلص منك، أنت أردت أن تبني حزبا قوميا بوجه تونسي ويتعامل مع الأحزاب والقوى السياسية بشكل ديمقراطي وعلني لأنك تدرك مصيبة هذه البلاد أنها ما زالت تعيش عهد البايات، فقد أخذت كل مظاهر الحداثة ما عدا الديمقراطية". وتأتي طرافة هذه الرواية ضمن الرواية العربية السياسية من أنها رواية المراجعات، فعلى خلاف الرواية السياسية التي تهجو الأنظمة التي كانت تقمع ناشطيها فإن هذه الرواية فضحت هذه التنظيمات ومن داخلها قبل أن تفضح النظام الذي يمنعها ويحجر أنشطتها. وقوة هذا النص أنه يأتي على لسان ناشط سياسي معارض يكتشف أن في العمل السياسي ليس هناك أيادي نظيفة وليس هناك قيما، وهو ما أدى بالتنظيم إلى التخلص منه لأنه متمسك بالشعارات والقيم التي يرفعها التنظيم دون أن ينزله على الواقع. وقد ترك الراوي شخصية غيره تصف التنظيم على لسان نيتشه، صوت الضمير والعقل، عندما واجهت زهير العيادي قائلة "أتعرف ما مشكلتكم؟ أنتم تعارضون الإسلاميين وأنتم رجعيون مثلهم... تعارضون اليسار وتؤمنون بتفوقهم عليكم لأنكم تسعون إلى اشتراكية باهتة.. تسعون إلى الديمقراطية وتكرهون المجتمعات الليبرالية، أي تنظيم مضحك هذا..". وتبقى رواية خير الدين جمعة رواية المراجعات الضرورية لطبيعة الحراك السياسي التونسي والعربي والنضالات التي عرفتها ساحات عربية كثيرة وفيها إسقاطات واضحة على مأزق المشهد السياسي في الراهن العربي.

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

إصدار جديد يقارب حصيلة الدراسات الأمازيغية في المغرب
مؤلف يرصد البرلمان المغربي في ظل ثلاثة ملوك
رواية "وجوه يانوس" تقود أول امرأة إلى رئاسة الحكومة…
ديوان شعري أمازيغي يدعم مرضى السرطان الفقراء
أول عدد من "مجلة تكامل للدراسات" يرى النور

اخر الاخبار

جلسة طارئة لمجلس الأمن تطالب بخفض التوتر في سوريا…
حماس تعلن عدد الرهائن الذين قتلوا في حرب غزة
قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب…
الملك محمد السادس يُهنئ رئيس رومانيا بمناسبة احتفال بلاده…

فن وموسيقى

منى زكي تحتفي بعرض فيلمها "رحلة 404" في هوليوود…
الكويت تسحب الجنسية من الفنان داوود حسين والمطربة نوال
حسين فهمي يكشف تفاصيل تحضيره لمهرجان القاهرة السينمائي في…
سعد لمجرد يُصدر أغنيته الهندية – المغربية الجديدة «هوما…

أخبار النجوم

وفاء عامر تترك مسلسل "سيد الناس" بسبب الإصابة وتستعد…
بشرى تتألق بين الدراما والجوائز مع عودتها في رمضان…
هنا الزاهد توجه رسالة مؤثرة إلى لبلبة
ليلى علوي توجه رسالة دعم لمنى زكي والأخيرة ترد…

رياضة

محمد صلاح يؤكد أن مباراته أمام مان سيتي ستكون…
"الفيفا" يُعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034…
3 لاعبين مغاربة في قائمة المرشحين لجوائز الأفضل لعام…
"فيفا" يكشف أسباب ترشيح ميسي لجائزة "الأفضل"

صحة وتغذية

إجراء جراحي يعكس أضرار سرطان الساركوما ويعيد استقلالية المرضى
وزير الصحة المغربي يؤكد أنه لا يمكن وضع تشريعات…
السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة
النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

الأخبار الأكثر قراءة