العمران الجزائري تراث مضيع وحداثة مستعجلة

العمران الجزائري تراث مضيع وحداثة مستعجلة

المغرب اليوم -

العمران الجزائري تراث مضيع وحداثة مستعجلة

بقلم : عبد اللطيف ولد عبد الله

تتعاقب الأمم والشعوب مخلّفة وراءها نتاجاً فكرياً وعقلياً قد يصمد أو يندثر، ولكن صمود هذه الحضارات يعتمد على قوة وعظمة مبانيها وقصورها. الحضارات التي لطالما سمع عنها الإنسان وفتن بقصصها وملاحمها فعكف على دراستها واكتشافها من خلال ما خلفته من بنايات عظيمة تسحر العقول وتخلب الألباب، ولا تزال تقاوم الزمن رغم الحروب الضارية والكوارث الطبيعية.

فالفن المعماري أكبر شاهد على تنوع واختلاف الفكر البشري عبر العصور، وهذا ما تعكسه العمارة بشكل عام، فالعمارة مرت عبر التاريخ بثلاث مراحل: أولاها الفن الرمزي الذي يرمز إلى إحدى التصورات المجردة، ومضمونها يرمز إليه العمل الفني المعماري، على أنه مقدس وإلهي مثل برج بابل ومسلة المصريين وأبي الهول والممرات داخل الأهرامات، أما المرحلة الثانية فهي المعمار الكلاسيكي الذي تتزايد فيه الناحية الروحية، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي المعمار الرومانتيكي، وهذه المباني تمثل تطلعات الروح الصاعدة التي انسحبت من العالم الخارجي لتنعم بعزلة ذاتية خاصة.)

فالأهرامات مثلاً وحدائق بابل المعلقة ومعابد أثينا الوقورة وكوليزيوم روما وسور الصين العظيم الذي بدأ بناء أول أجزائه (800 - 400) ق.م، وانتهى سنة 204 ق.م.)

كل هذه المباني لا يزال بعضها قائماً إلى الآن رغم مرور آلاف السنين على اندثار تلك الحضارات، فالأمم المتقدمة تتسابق لترميم هذه المنشآت واكتشافها والترويج لها قصد الحفاظ على ذاكرتها وجذب السائح الأجنبي، والتعريف بتاريخها، وما يحمل من دلالات، ولو نتكلم عن أهمية البناية فلن يسعنا المقام في هذا المقال، بل سنوجه تركيزنا كله على المدن الجزائرية التي تزخر بهندسة معمارية متنوعة؛ إذ لا نكاد نجد في أي مدينة طابعاً واحداً يغلب على جميع النسيج العمراني، وهذا يرجع إلى تعاقب الحضارات والأمم على هذه المنطقة الجغرافية عبر التاريخ، فأحيانا نجد الطراز العربي متجسداً في بعض أجزاء البنايات كالروشن والمشربية في بنايات القصبة -الجزائر العاصمة- وهما كلمتان من أصل فارسي نُقلتا إلى العربية بعد الفتوحات الإسلامية، ولعل أهم عنصرين عربيين لا يزالان يفرضان وجودهما هما القبة والمئذنة، فأول قبة بنيت للمسجد في الإسلام هي قبة الصخرة، التي قام ببنائها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 72م، رغبة منه في أن يضاهي قبة مسجد القيامة التي يحج فيها النصارى (2)، وبدأ المسلمون يتفننون في تصميمها فنقلوها عبر فتوحاتهم إلى أنحاء العالم، والمتجول في أحياء المدن الجزائرية يرى تعانق الحضارات وتكاتفها رغم المدة التي تفصل بينها ورغم اختلاف ثقافة كل أمة، وهذا الفن استطاع أن يجمع في مدينة واحدة بين العثمانيين والعرب والأوروبيين على اختلاف نمط البنايات وشساعة الفروق في مواد البناء بين التقليدي والحديث.

ولكن للأسف فالجزائري الآن ليس متسامحاً مع الآخر، فهو يرى في الكنيسة الشامخة تهديداً لإسلامه وتذكيراً بالاستعمار الفكري الذي عانى من تبعاته لأكثر من قرنين من الزمن.

ورغم ذلك تجد الجزائري البسيط يتأمل البنايات الكولونيالية بإعجاب ويقارنها بالتي شيدت حديثاً، وذلك لأن المدينة أصبحت تشهد توسعاً سريعاً وتضخماً هائلاً في عدد السكان، مما جعل الحكومة الجزائرية تسارع إلى إنشاء مدن وأحياء جديدة، ولكنها للأسف لم تتم بطريقة مدروسة ولا راعت تراثها المعماري ولا خصائص الإقليم.

فالبنية التحتية للمدينة هشة ولا تستجيب لمتطلبات المدينة العصرية، بل لن تسمح بتوسع المدينة في المستقبل القريب.

إنه طمس غير متعمد للهوية الجزائرية وجريمة في حق الإنسانية، فالبناية تعكس مدى تطور المجتمع ورقيه.

وعندما نسمع أن إحدى الكنائس قد تم هدمها أو تحويلها إلى مسجد، فإننا نأسف لهذا الوضع الثقافي المتردي.

إن العمارة الجزائرية لا تتوافر في أغلب الأحيان حتى على أدنى شروط النظافة والرفاهية، هي مجرد علب إسمنتية لا تراعي ذوقاً ولا جمالاً، ولا توفر متطلبات المواطن الثقافية، فالعائلات المحافظة لا يحق لنسائها استعمال الشرفة أو النافذة لسبب اجتماعي ثقافي، ومن هنا نعيد ذكر فائدة الروشن والمشربية ودورهما في الحفاظ على الخصوصية دون أن تحجب العالم الخارجي عن المرأة، كما أنهما يضفيان على الواجهات جمالاً نوعياً ودفئاً خاصاً.

ونفس الحال بالنسبة للحوش أو الفسقية وسط البناية أين نجد في أغلبها نافورة ماء تعطي حيوية للفضاء الداخلي وكأنك في مملكتك الخاصة.

حقاً لقد صدق بول فاليري حين قسم الأبنية إلى ثلاثة أنواع، فهناك أبنية صامتة لا تتكلم، وأبنية ناطقة تتكلم، وأبنية صداحة تغني، فالأبنية الصامتة التي لا تتكلم ولا تغني إنما هي أبنية ميتة لا تستحق منا إلا الازدراء، وأما الأبنية المتكلمة فإنها جديرة منا بكل اعتبار، على شرط أن تكون لغتها واضحة فصيحة لا يختلط أمرها حتى على الجاهلين بأصول المعمار، فأبنية المحاكم مثلاً لا بد من أن توحي إلى الناس بمعاني العدالة والصرامة والمساواة وأبنية النوادي لا بد من أن تبعث في نفوس الناس مشاعر التآلف والتآخي، وأبنية المعابد لا بد من أن تثير في أفئدة القوم أحاسيس التسامي والعبادة والخشوع، وأبنية السجون لا بد من أن توحي إلى الناس بمعاني الضيق والحرمان، وأبنية المسارح لا بد من أن تولد في قلوب الجماهير أحاسيس المشاركة والتذوق والاستمتاع.. إلخ.
أما الأبنية الصداحة التي يقول عنها فاليري إنها "أبنية الفن وحدها" فهي تلك الآثار الرائعة التي تصدح بموسيقى سحرية صافية، وكأنها هي أنغام سماوية قد صيغت من حجارة ولا تكاد تثير فينا أي إحساس بما لها من فائدة أو منفعة، بل كل ما فيها يصدح بموسيقى خاصة تمزج الجمال بالجلال. )

السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا ما هو مستقبل العمارة الجزائرية؟ وما مصير التراث المنفي من عقولنا وذوقنا؟ هل نحن أعداء للفن والجمال لأننا طمسنا أغلب معالمنا، أم أننا جاهلون بتاريخنا وأن ذائقتنا الفنية لم تنضج بعد؟ في الوقت الذي نرى فيه أن المدن الجزائرية تتسع بعشوائية على حساب الأراضي الفلاحية غير مراعية لمخططات العمران المعمول بها، ولا محترمة المقاييس العالمية للبناية وفي الوقت الذي يطغى فيه الإسمنت وتغرق قطرات من الماء مدينة بأكملها، فإن الدول المتقدمة تعتمد في بنائها على مواد طبيعية صديقة للبيئة، كما أن البناية لم تعد بحاجة للمكيفات الهوائية أو التدفئة الغازية، فهي تستعمل تقنيات تساعدها على صناعة الطاقة بنفسها، إما عن طريق الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح.. إلخ، بل هناك مخطط لبناء مدينة كاملة في المريخ في الأعوام القليلة المقبلة.

نأسف كل الأسف عندما نرى أن بناية عمرها مئات السنين تتساقط جدرانها بسبب الإهمال وعدم اهتمام السلطات بالتراث المعماري، سواء في الجنوب أو في الشمال.

نأسف عندما نشاهد الغرافيتي على جدران بناء يمتد عمره آلاف السنين؛ بل إن أغلب البنايات غير مصرح بها من طرف منظمة اليونيسكو العالمية، ولكن إن لم نحترم نحن ذاكرتنا وتاريخنا فلا يحق لنا انتظار احترام الآخرين لنا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العمران الجزائري تراث مضيع وحداثة مستعجلة العمران الجزائري تراث مضيع وحداثة مستعجلة



GMT 16:46 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جحيم الغلاء المعيشي يجلد ظهر اليمنيين

GMT 06:49 2022 الأحد ,25 كانون الأول / ديسمبر

أزمة الطاقة وسيناريوهات المستقبل

GMT 17:59 2021 الأحد ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركات بورصة الدار البيضاء ترفع رقم معاملاتها

GMT 10:02 2021 الأحد ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أداء أسبوعي إيجابي في بورصة الدار البيضاء

GMT 03:37 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأحمر

GMT 22:30 2021 الأربعاء ,29 أيلول / سبتمبر

بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib