امرأة في مملكة الرجال

امرأة في مملكة الرجال

المغرب اليوم -

امرأة في مملكة الرجال

توفيق بو عشرين

كانت طوال الوقت تحت الأضواء، لكن حبها الأول كان العيش في الظل، كانت في قلب السلطة لكن عشقها الأول كان العمل الإنساني، كانت دينامو الأنشطة الاجتماعية للملك، لكن من الخلف دائما ما تبتعد عن الصدارة، عن المباهاة والادعاء الذي يصيب جل من يقترب من دار الملك… إنها الراحلة زليخة نصري، أول مستشارة للعلويين منذ وصلوا إلى السلطة قبل حوالي أربعة قرون. امرأة يلقبها البعض بالمرأة الحديدية نظرا إلى صرامتها وانضباطها في العمل، ويلقبها البعض بـ«تيريزا» المغرب لأنها امرأة وهبت حياتها لفعل الخير، وتتبع كل صغيرة وكبيرة في الخريطة الاجتماعية للمملكة، ويلقبها آخرون بمدام «INDH» لأن على يد هذه الموظفة السابقة في وزارة المالية ولدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية…

ابنة الشرق دخلت إلى تاريخ الملك من باب خاص، قبلها دخلت نساء كثيرات إلى دار المخزن لكنهن دخلن من باب الحريم، فيما هي دخلت من باب المكلفة بمهمة، ثم المستشارة التي تحمل الملفات وتدلي برأيها في القضايا الكبرى، وتعطي الأوامر لكبار الشخصيات، وتراقب الأوراش، وتتابع التعليمات الملكية، وإليها يرجع ملك المغرب في جولاته الكثيرة عبر ربوع المملكة.

زليخة نصري لم تصل إلى الموقع الذي توفيت وهي فيه بقطار سريع وبتذكرة درجة أولى، بل كافحت من أجل أن تصنع لاسمها مكانا بين الكبار، ويذكر لها موظفو وزارة المالية، حيث كانت تشغل منصب مدير مركزي، كيف خاضت حروبا طاحنة مع شركات التأمين في التسعينات، وكيف أن مشروعا لإصلاح هذا القطاع، الذي يعيش تحت رحمة الحيتان الكبيرة، كان سببا في إبعادها عن منصبها، لأنها صارت مزعجة أكثر مما تتحمل أعصاب الإدارة عندنا، ولهذا عندما عُينت كاتبة للدولة لدى وزير الشؤون الاجتماعية مكلفة بالتعاون الوطني في حكومة عبد اللطيف الفيلالي الأخيرة.. كان الغرض هو إبعادها عن عِش الدبابير، ولم يكن بالضرورة تكريما لها لأن وزارة الشؤون الاجتماعية، في الأمس كما اليوم، لم تكن سوى منصب بروتوكولي، لأن ميزانية هذه الوزارة لا تصل إلى رقم معاملات شركة متوسطة.

كانت امرأة صامتة أغلب الوقت، تطبق التعليمات بالحرف، وتغار على التقاليد المرعية وكأنها ابنة دار المخزن، لكنها في الوقت المناسب كانت تقول رأيها بشجاعة وجرأة. عندما كان الملك محمد السادس يبعثها، رفقة فؤاد عالي الهمة، في الأوقات الحرجة، إلى رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، كان الجميع يقرأ في وجه هذه المرأة رسالة أخرى غير الرسالة التي يحملها المبعوث الخاص.

عندما تقرأ كتابات عبد الله العروي، المؤرخ الكبير للمغرب والعارف ببواطن نظامه السياسي عبر العصور، تخرج، من جل كتاباته حول المخزن، بخلاصة يمكن إيجازها في التالي: المحزن عربي ذو أصول شريفة، وسلطوي لا يقبل الشراكة، وديني لا يؤمن بفصل العقيدة عن السياسة، وذكوري لا مكان للمرأة في مجاله العام، ومركزي لا يؤمن بالجهوية أو اللامركزية، وبرغماتي لا يثبت على حال، وخريطة أعدائه لا تتغير تقريبا، لكن خريطة حلفائه تتغير طوال الوقت.

محمد السادس غير في هذه الخطاطة التقليدية عن المخزن، وإن كان لم ينقلب عليها كليا.. صالح المخزن مع الأمازيغ، وأدخل هذا البعد الهوياتي والثقافي الأصيل في البلد إلى الدستور وإلى جزء من السياسات العمومية، ومحمد السادس أيضا أنهى قصص الحريم في القصر، وأدخل امرأة لأول مرة إلى مملكة الرجال.. إلى مربع المستشارين الذي كان محجوزا للذكور دون الإناث، ومحمد السادس يحاول اليوم كسر طابع الدولة المركزي في محاولة لإيجاد حل لنزاع الصحراء الذي سبب أوجاعا بلا حصر للمملكة الشريفة.

رحم الله زليخة نصري التي فارقت هذه الدنيا أول أمس في المستشفى العسكري بالرباط، وكم كانت ستموت مرتاحة لو رأت بلادها تخرج من خانة الأرقام الثلاثة لتصنيف برنامج الأمم المتحدة للتنمية، لكن، للأسف، يوما واحدا قبل رحيلها، صدر تقرير PNUD الذي وضع البلاد في مرتبة مخجلة.. 124… لكن إليها يعود الفضل في جعل الفقر يكشف عن نفسه في بلاد كانت تتنكر لوجود الفقراء والمهمشين والمجرمين والمحاصرين والمنسيين من رحمة الدولة، لهذا فإن كل المجهودات التي قامت بها تشفع لها، وإن كان الخصاص موجودا ولايزال في مملكة فيها خير كثير وفيها فساد كثير، وفيها آمال بعرض السماء.. رحمك الله زليخة نصري.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

امرأة في مملكة الرجال امرأة في مملكة الرجال



GMT 19:34 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 19:31 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 19:28 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 19:19 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 19:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 19:14 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

GMT 18:02 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفاء والاستحياء

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 04:55 2018 الثلاثاء ,07 آب / أغسطس

" Chablé" يمثل أجمل المنتجعات لجذب السياح

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 20:53 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

شجار بالأسلحة البيضاء ينتهي بجريمة قتل بشعة في مدينة فاس

GMT 22:28 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

ولي عهد بريطانيا يقدم خطة لإنقاذ كوكب الأرض

GMT 05:06 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

"Hublot" الخزفية تتصدر عالم الساعات بلونها المثير

GMT 09:11 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

فتاة منتقبة بطلة فيلم "ما تعلاش عن الحاجب"

GMT 07:11 2018 السبت ,25 آب / أغسطس

فولكس" بولو جي تي آي" تتفوق على "Mk1 Golf GTI"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib