ديمقراطيون من دون ديمقراطية

ديمقراطيون من دون ديمقراطية

المغرب اليوم -

ديمقراطيون من دون ديمقراطية

توفيق بو عشرين

في تسعينيات القرن الماضي، انتشرت مقاربة سياسية في العالم العربي تقول باحتمال ميلاد الديمقراطية من دون ديمقراطيين، نتيجة المأزق الذي وصلت اليه النخب الحاكمة في العالم العربي، نخب تعرت، صارت بدون غطاء قومي او تحرري او وحدوي او تنموي، ونتيجة لهذا المأزق، وبسبب تحرير الاقتصاد واتساع الخوصصة وبروز بوادر تهديدات جدية للسلم الاجتماعي في جل الدول العربية والمغاربية، التي وصلت بهذه الطريقة او اخرى الى السكتة القلبية ، لكل هذه العوامل وغيرها ظهرت هذه المقاربة السياسية، التي كانت تتوقع ان تولد تجارب ديمقراطية في العالم العربي حتى دون وجود ديمقراطيين، لان مأزق الشرعية الذي أصبحت تتخبط فيه النخب الحاكمة، لن يترك أمامها من طريق للخروج من الورطة سوى سلوك سبيل انتقال ديمقراطي تدريجي، حتى مع وجود فقر في الثقافة الديمقراطية وخصاص في النوع الديمقراطي وسط النخب السياسية ، للأسف هذه النظرية لم تتحقق في الواقع، بحيث ان جل الأنظمة العربية لم تتجه الى انفتاح ديمقراطي جدي لكي تجيب على اشكالية المشروعية في نظام حكمها بل ، اتجهت الى مزيد من القمع والتحالف مع الغرب واعادة انتاج قاعدة جديدة للحكم، عمادها مثلث من ثلاثة أضلع وهي : الاعتماد على الامن والمخابرات لخنق المجتمعات وقتل مقاومة الاستبداد في المهد بالعصا والجزرة والخوف والاختراق والتدجين ، الضلع الثاني هم رجال الاعمال الذين يحتاجون السلطة ونحتاجهم السلطة باعتبارهم نخب اقتصادية نافذة وموثرة ، والحليف الثالث في هذا الضلع غير المقدس، هي وسائل الدعاية السوداء والإعلام الموجه والصحافة التي باعت روحها للشيطان ، والباقي شعارات تخيف الغرب من تطرف المجتمعات العربية والمغاربية وتخيره بين أنظمة علمانية استبدادية او معارضة اصولية ارهابية…
يظهر المؤشر العربي لهذه السنة، للمرة الرابعة على التوالي، ان الشعوب العربية ديمقراطية اكثر من نخبتها، بحيث كشف استطلاع رأي ينجزه المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، ان 89٪‏ من المستجوبين العرب، والمغاربة من بينهم، في 12 بلد عربي اعطوا تعريفات صحيحة وذات مضمون ليبرالي لكلمة الديمقراطية، فرأى البعض فيها انها ضمانة للحرية السياسية (35% ) وأفاد (26%) بان الديمقراطية تعني ضمان المساواة والعدل بين المواطنين، فيما رأت (12% )ان الديمقراطية طريق لتحقيق الامن والاستقرار والتنمية الاقتصادية، هذه النسب العالية في فهم واستيعاب مدلول الديمقراطية داخل عينة تمثيلية وصلت إلى 18311 ، ستتعزز اكثر عند سوْال المستجوبين عن رأيهم في النظام الديمقراطي، حيث عبر( 79%‏ )من الرأي العام العربي والمغربي عن تأييده للنظام الديمقراطي، واعتباره هذا النظام الأكثر ملاءمة لحكم بلدانهم مقارنة بالانظمة الاخرى، كما رفض المواطنون العرب المشاركون في هذا الاستطلاع، نظام الحكم السلطوي سواء أكان علمانيا ام دينيا، ولم يلتفتوا الى الغطاء الذي تلبسه السلطوية أكان غطاء ايديولوجيا (حداثيًّا) او غطاء دينيا (ربانيا ).
اما عن القبول بنتيجة الاقتراع حتى وان حملت الانتخابات احزاب وأشخاص لا يقاسمها المستجوبون توجهاتها او ايديولوجيتها واختياراتها، فقد أعلن (55٪‏ ) عن تأييدهم لوصول حزب سياسي عبر الانتخابات الى السلطة، حتى وان لم يكونوا على وفاق مع توجهاته او أيديولوجيته، وهذا مستوى متقدم من قبول نتائج الانتخابات بالنسبة لمواطنين لا تعيش في أنظمة ديمقراطية بل تسمع عنها فقط ، مواطنون يعيشون في بلدان سلطوية ومع ذلك تجد55٪‏ يعلنون انهم ملتزمون بقاعدة الأغلبية والأقلية ولا يَرَوْن مانعا من ان يحكمهم بصناديق الاقتراع من يختلفون معه في الراي او السياسة او توجهات الحكم …
عبر المشاركون في هذا الاستطلاع عن معرفة ليس فقط بأدبيات الديمقراطية، بل وكذلك عن وعي متقدم بالواقع الذي يعيشونه، حيث لم تعتبر أغلبية العينة المستجوبة ان بلدانها تعيش في ظل أنظمة ديمقراطية كاملة …
اما عن (الكليشيه ) المبتذل الذي يلصق بالشعوب العربية تهمة الخلط بين الدين والسياسة وان العرب والمغاربيين لا يعرفون طريقا الى السلطة غير طريق المسجد و الدين وخلط السياسة بالعقيدة، فقد جاءت نتائج المؤشر العربي متناقضة كليا مع هذا الفهم السطحي لاحوال العرب، فأغلبية الراي العام ترفض ان يؤثر رجال / شيوخ الدين في قرارات الحكومات وفي كيفية تصويت الناخبين، كما ان الأكثرية ترفض ان تقوم الدولة باستخدام الدين للحصول على تأييد الناس لسياساتها، وترفض ايضا ان يستخدم المرشحون في الانتخابات الدين من اجل كسب أصوات الناخبين، هذا على الرغم من ان الأغلبية في هذا الاستطلاع تعرف نفسها كشريحة متدينة او متدينة جدا .
هذه النسب العالية من التأييد للديموقراطية وقيمها لا توجد اليوم حتى في بعض البلدان الأوروبية، التي صارت الشعبوية والعنصرية والقومية المتعصبة تنتعش داخلها وتبعدها عن جوهر الممارسة الديمقراطية، وهذا ما يفسر شيئين : اولا زيادة الطلب على التغيير والإصلاح السياسي في الشارع العربي سواء عبر الثورات او مسارات التغيير الهادئ ، ثانيا ان انتشار الثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية على هذا النحو غير المسبوق هو ما يحرض الأنظمة السلطوية على مواجهة الربيع العربي بكل وسائل القمع حتى البدائية منها، كما حدث امس في مصر واليمن وسوريا وغيرها ،فأحسن واحد يقرا مؤشرات الشارع العربي كل صباح (بطريقة جيدة) هي أنظمة الحكم الاستبدادية التي تعتبر حجة في هذا الباب .

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ديمقراطيون من دون ديمقراطية ديمقراطيون من دون ديمقراطية



GMT 19:34 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 19:31 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 19:28 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 19:19 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 19:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 19:14 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

GMT 18:02 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفاء والاستحياء

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 04:55 2018 الثلاثاء ,07 آب / أغسطس

" Chablé" يمثل أجمل المنتجعات لجذب السياح

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 20:53 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

شجار بالأسلحة البيضاء ينتهي بجريمة قتل بشعة في مدينة فاس

GMT 22:28 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

ولي عهد بريطانيا يقدم خطة لإنقاذ كوكب الأرض

GMT 05:06 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

"Hublot" الخزفية تتصدر عالم الساعات بلونها المثير

GMT 09:11 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

فتاة منتقبة بطلة فيلم "ما تعلاش عن الحاجب"

GMT 07:11 2018 السبت ,25 آب / أغسطس

فولكس" بولو جي تي آي" تتفوق على "Mk1 Golf GTI"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib