عمامة الفقيه وطربوش العسكري

عمامة الفقيه وطربوش العسكري

المغرب اليوم -

عمامة الفقيه وطربوش العسكري

توفيق بو عشرين

خسر الفكر الإسلامي في السودان عالما مجددا وفقيها متضلعا، وربحت السياسة زعيما مضطربا وسياسيا مناورا قاد انقلابا عسكريا كان واحدا من ضحاياه… هذه لمحة واحدة من دفتر حسن الترابي المليء بالأفكار والمبادرات والمناورات والأخطاء والمراجعات والصراعات والمصالحات.. دفتر ظل مفتوحا لأكثر من نصف قرن للفتى الأسمر الذي حلق في عوالم الدين والفقه والقانون والسياسة والسجون حتى رحل حديثا عن دنيانا.
سيرة الترابي فصل مهم في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة التي أطلق حسن البنا في عشرينات القرن الماضي شرارتها الأولى، ومازالت إلى اليوم تبحث عن ذاتها، وتكرر الأخطاء ذاتها التي صاحبت القوميين واليساريين والناصريين والبعثيين والليبراليين. لم يهتد بعد أي تيار من تيارات الفكر والسياسة إلى مخرج من الأزمة التي تضرب العرب، وتعلن تقريبا وفاتهم كأمة ناهضة بين الأمم.
نظر الترابي لإسلام معتدل ولفقه عصري ولأصول دين جديدة، كان ينظر بعينه الأولى في كتب التراث الإسلامي التي تربى عليها في كنف والده، فيما العين الثانية كانت تتطلع إلى منجزات العصر الذي يعيش فيه وقد رآه رأي العين في جامعتي أوكسفورد بلندن والسربون في باريس، لكن الفتى الأسمر لم يرض أن يكون مجرد فقيه أو قاض أو مثقف أو صاحب مذهب أو طريقة صوفية في بلاد تتنفس الإسلام الصوفي على ضفاف النيل، كان الترابي يطمح إلى أن يصير خميني السودان.. زعيما سياسيا ودينيا في العالمين العربي والإسلامي. أسس أول حزب للإخوان المسلمين سنة 1964 (جبهة الميثاق الإسلامي)، ووضعه في مواجهة الحزبين الكبيرين، الأمة والشيوعي. صارع النميري ثم رجع وتصالح معه، وكان خلف التجربة السيئة لتطبيق الشريعة كنائب عام في السودان، ورئيس لجنة مواءمة الدستور مع أحكام الحلال والحرام. من منصب إلى آخر ومن زنزانة إلى أخرى ومن تنظيم إلى تنظيم، تقلب الترابي مع أحوال الطقس السياسي في بلاد مازالت إلى الآن تعاني التفكك والفقر والاستبداد والطرق الكثيرة غير المعبدة، إلى أن طبخ في سرية كاملة انقلابا عسكريا على ديمقراطية الإمام الصادق المهدي المريضة سنة 1986، لكن أحوال السودان ازدادت سوءا مع الجنرال البشير الذي وضع يده في يد رجل الدين الترابي، ثم رجع العسكري وتمرد على معلمه المدني رافضا أن يكون واجهة عسكرية لحكم الفقيه. لم يعمر التعايش بين «الخوذة والعمامة» سوى أقل من 10 سنوات، ثم تحول الزواج بين الفقيه والجنرال إلى طلاق بائن، بعدها تحول الترابي إلى معارض شرس للنظام الذي أقامه داعيا السودانيين إلى إسقاطه، فيما تحول البشير إلى مطارد من المحكمة الجنائية الدولية باعتباره مسؤولا عن جرائم ضد الإنسانية… دعا الترابي إلى تطبيق الشريعة وتوقيع الحدود في فورة شبابه، ورجع إلى القول إن حجاب المرأة عادة وعذاب القبر غير موجود وزواج المسلمة من الكتابي جائز. فتح بلاده لابن لادن الذي كان مجاهدا ومقاولا يبني الطرق، حرفة والده وجده، وسلم كارلوس إلى فرنسا بعدما أعطاه الأمان في الخرطوم.. كان يحرض الشباب على الالتحاق بالجهاد في الجنوب لقتال المسيحيين والوثنيين، ومنع تقسيم البلاد، لكن عندما خرج إلى المعارضة وقع اتفاقية تفاهم مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون غرنغ، التي كان يتهمها بالعمالة للإنجليز ولمجمع الكنائس العالمية التي تكيد لأمة محمد (ص).
حتى الربيع العربي، الذي ضرب في جل الدول العربية قبل خمس سنوات، لم يستطع أن يحرك مياه السودان الراكدة.. وصل الوضع إلى مرحلة لم يعد فيها العلاج ولا الإصلاح يشتغلان في جسم مات ولم يدفن بعد. رحل الترابي ولعل أبناءه يستخلصون الدرس والعبرة من حياة زعيمهم الحافلة بالتناقضات، ولعل هناك خلاصات ثلاث؛ أولاها أن الانقلاب على الديمقراطية، مهما كانت هذه الديمقراطية ناقصة أو مريضة، لا يلد إلا كافرا بها. وثانيتها أن الزعيم يجب أن يختار الدعوة أو السياسة.. عمامة الفقيه أو قبعة السياسي، فلا تجتمع الزعامة الروحية والسياسية في قلب رجل واحد في أيامنا هذه، وإذا اجتمعت فإن الفشل يكون حليفها الأكبر. أما ثالث الدروس المستخلصة من سيرة حسن الترابي فهو أن لكل قائد سياسي عمر افتراضي.. عمر لا يمتد به إلى القبر، بل يقف عند حدود معينة لا يتجاوزها الإنسان في حياته لكي لا يصير ثقيلا على قلوب الناس وعبئا على مصائرهم، يقول اليوم كلاما ينكثه غدا، فيترك الناس في حيرة من أمرهم. الترابي عرف كيف يصعد إلى المسرح في بلاده، لكنه لم يعرف كيف ينزل إلى أن تكفل عزرائيل بالمهمة. رحم الله الترابي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عمامة الفقيه وطربوش العسكري عمامة الفقيه وطربوش العسكري



GMT 19:34 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 19:31 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 19:28 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 19:19 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 19:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 19:14 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

GMT 18:02 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفاء والاستحياء

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 04:55 2018 الثلاثاء ,07 آب / أغسطس

" Chablé" يمثل أجمل المنتجعات لجذب السياح

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 20:53 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

شجار بالأسلحة البيضاء ينتهي بجريمة قتل بشعة في مدينة فاس

GMT 22:28 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

ولي عهد بريطانيا يقدم خطة لإنقاذ كوكب الأرض

GMT 05:06 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

"Hublot" الخزفية تتصدر عالم الساعات بلونها المثير

GMT 09:11 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

فتاة منتقبة بطلة فيلم "ما تعلاش عن الحاجب"

GMT 07:11 2018 السبت ,25 آب / أغسطس

فولكس" بولو جي تي آي" تتفوق على "Mk1 Golf GTI"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib