صحافة تكتب لقارئ واحد

صحافة تكتب لقارئ واحد

المغرب اليوم -

صحافة تكتب لقارئ واحد

بقلم : توفيق بو عشرين

في كتابه «السادات وهيكل وموسى»، ينقل الكاتب، حنفي المحلاوي، رواية درامية معبرة، تقول إن الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، قال لكبير صحافيي مصر خلال نصف قرن ويزيد، محمد حسنين هيكل، في الفترة التي شهدت تصاعد خلاف بينهما بسبب معارضة هيكل اتفاقية كامب ديفيد وسياسات السادات تجاه إسرائيل وأمريكا: «تفتكر إن الناس في مصر هيفضلو لفترة طويلة يقرؤو لصحفي واحد فقط؟ -يقصد هيكل- المفروض أن ده وضع لازم يتغير فوراً»، ليرد عليه هيكل : «إذا كان كلامك ده حقيقي، يا ريس، فهذا وضع أحسن مما هو حادث الآن، وهو إن كل الصحافيين في مصر الآن يكتبون لقارئ واحد». وهي إجابة شديدة الذكاء والقوة، في الآن نفسه، من صحافي عاش قريبا من السلطة وبعيدا عنها، وجرب نعيم القصور ومحن السجون، وترك بصمات كبيرة في تاريخ الصحافة العربية المنكوبة.

هناك صحافيون يكتبون لقارئ واحد، هو الحاكم، أو السلطة، أو توجه الدولة، أو الطرف الرابح، وهمهم الأول هو رضى هذا القارئ الخاص. الباقي لا يهم، وهناك من يكتب لأكثر من قارئ، ووجهته الحقيقة، على نسبيتها، في عالم يتغير كل دقيقة.

الصحافة، ومنذ نشأتها، كانت مرافقة للسياسة، لكنها في التجارب العريقة عرفت كيف تخرج من بيت طاعة السلطة، واهتدت إلى طريق صارت معه محامي الدفاع عن الإصلاحات الديمقراطية، وعن الشفافية، وعن دولة القانون، وعن حق المواطن في الوصول إلى المعلومات، والاطلاع على الآراء والأخبار ووجهات النظر المختلفة، ما يساعد المواطن على تشكيل رأي مستقل تجاه الحكومات والسياسات العمومية (فرأي أي مواطن يقاس بنوع المعلومات الصحيحة التي لديه والعكس صحيح). لكن، في الدول المتخلفة، لم تنل الصحافة استقلاليتها في غالب الأحيان، وبقيت تحت سلطة الكفيل، بالعصا تارة، وبالمال أخرى. ومع مرور الوقت، ولد صحافيون مخصيون في رحاب صحافة مسيجة، عقلها مكبل، وخيالها محدود، وأصبح هؤلاء الصحافيون ليس فقط يلحسون حذاء الحاكم في الصباح، ويبررون قراراته كل مسا،ء ويشاركون في كل حروبه دون تحفظ ولا مسافة تتطلبها أعراف المهنة، بل صاروا متطوعين لمحاربة «زملائهم» الذين اختاروا أن يؤدوا مهنتهم بتجرد ومهنية واستقلالية، ولو نسبية، مما يسمح به جو يتنفس الرقابة، ومناخ اقتصادي يلعب دور الرقيب الناعم على خطوط التحرير.

الصحافة الجادة في بلادنا لا تعاني فقط الأعطاب التقليدية التي تعانيها جل الصحف، من ضيق سوق القراءة، إلى ضعف مردودية الإعلانات، إلى المنافسة شرسة للوسائط الجديدة للاتصال، بل تعاني عطبا أخطر هو غياب المنافسة في المشهد الصحافي، والافتقار إلى التعددية في الخطوط التحريرية، وعدم وجود اختلاف في زوايا المعالجة. فمن خلال إطلالة سريعة على حصيلة متابعة الحكومة السابقة، يتضح أن المنابر الجادة، التي تابعت حكومة بنكيران بموضوعية ودون تحامل موجه بـ«التيليكوموند»، قليلة جدا، كما هي قليلة جدا المنابر التي تشتغل خارج الرقابة الذاتية وخارج توجيه القلم السياسي. بل أحيانا نرى صحافيين يتصرفون مثل ذلك الذي قالوا له: «هل تعرف العلم؟ قال أعرف الزيادة فيه». طبعا الدولة تلام في هذا المجال، لأنها تُدخل كل سنة الفيل إلى محل بيع الفخار، وهي تلام لأنها لا توفر إطارا قانونيا لحماية روح الصحافة من التلوث بالمال السياسي والإعلان المسيس، والارتباطات المشبوهة مع أجهزة لا علاقة لها بالإعلام، مما أصبح معلوما وليس مكتوما، وصارت الصحافة المخدومة تفتخر بالتبعية لهذه الجهات، وتعتبر نفسها في مهمة مقدسة لحماية الوطن… لكن اللوم كذلك يصل إلى ما يمكن تسميته مجازا بـ«الجسم المهني»، الغائب تماما عن الدفاع عن المهنة وشرفها وحرمتها من عصا السلطة المختبئة وراء عدالة هشة، ونموذج اقتصادي أكثر هشاشة، والثمن يدفعه المواطن، وتدفعه التجربة الديمقراطية الفتية في البلد.

كان الصحافيون المغاربة في عهد الحسن الثاني يتهكمون على مقولة الملك الراحل عن صحافة المعارضة، التي كانت لسعاتها مثل الإبر في جسد حكمه.. كان الحسن الثاني يقول: «ليس في صحف المعارضة سوى معلومتين صحيحتين.. ثمن بيعها وتاريخ صدورها». اليوم أصبحت هذه المقولة أقرب إلى الحقيقة بالنسبة إلى «قفة» من الصحف والمواقع والمجلات، لكن الذي تغير أنها ليست محسوبة على المعارضة بل على الموالاة.. موالاة الحكم طبعا. إنها الأقلام التي تكتب لقارئ واحد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صحافة تكتب لقارئ واحد صحافة تكتب لقارئ واحد



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib