مولاي عبد الله كما عرفته

مولاي عبد الله كما عرفته

المغرب اليوم -

مولاي عبد الله كما عرفته

بقلم ـ توفيق بو عشرين

مات مولاي عبدالله إبراهيم منذ 12 سنة، لكن سيرته لم تمت، وبصماته في العقل الأخلاقي والسياسي للمغرب لم تنمح، وصفحته في كتاب الحركة الوطنية لم يعلها الغبار. أما رحلته القصيرة في رئاسة الحكومة، فمازلت شاهدة على الأمل المغربي في النهوض واللحاق بركب التقدم.

يوم السبت الماضي اجتمع السياسي والمثقف والمؤرخ والوزير والطالب والداعية بدعوة من المؤسسة التي تحمل اسم مولاي عبدالله إبراهيم، ليتذكر الجميع سيرة هذا الرجل العصامي، الذي أعطى دون أن يأخذ، والذي ظل صامدا وسط الإعصار زمن الاستعمار وزمن الاستقلال، فما لاَنَ ولا هان ولا باع ولا اشترى… عرفت الرجل الكبير في مقاعد الدراسة، حيث أمضينا في رحابه سنة بقيت موشومة في الذاكرة، ليس فقط، بعلمه وسعة اطلاعه وثقافته وخبرته بتاريخ المغرب، بل، وكذلك، بأخلاقه الرفيعة، حيث كان أول من يلتحق بقاعة الدرس في جامعة محمد الخامس بالرباط، وآخر من يخرج من المدرج بعد أن يكون قد أجاب عن كل الأسئلة، التي تؤرق الطلاب حول تاريخ المغرب الحديث والقديم.

كان أستاذا يتحدث في علم السياسة دون أن ينزلق إلى الحديث في السياسة. كان يضع على نفسه قيدا أخلاقيا وبيداغوجيا بأن لا يتخذ من سلطة الأستاذ الجامعي وسيلة لتمرير رأي مناضل أو معارض. كان يقيم الفرق بين الاثنين، ولكن وأمام إلحاح فوج كامل كان يدرس عنده في أواخر التسعينيات في أقسام دبلوم الدراسات العليا قبل أن يفتح لنا بيته لنتحدث في السياسة، بعيدا عن رحاب الجامعة، وحتى هنا لم يكن (تبشيريا) ولا (تعبويا) ولا (تحريضيا)، كان مثقفا كبيرا وسياسيا من درجة رجال الدولة الذين لا يرون لا قريبا ولا بعيدا، بل يرون عميقا…

من خلال معرفتي بمولاي عبدالله إبراهيم طالبا وصحفيا، يمكن أن أدلي بشهادة كنت أنوي المشاركة بها في لقاء مراكش، لولا سفر خارج المغرب امتد أكثر مما كان مخططا له… أولا: عبدالله إبراهيم لسان بلا عيب، وعقل بلا قيد، وثقافة بلا حدود، وانفتاح بلا قيود… تحت كل وصف من هذه الأوصاف يمكن للمرء أن يكتب فصلا كاملا من سيرة الرجل، لكن سأقتصر على خصلة واحدة من خصال الرجل الحميدة، لم يكن عبدالله إبراهيم وطيلة ساعات وهو يحكي عن الموامرات التي تعرض لها حزبه، ثم حكومته، ثم سمعته، فنقابته…

طيلة زمن الحكي لا يمكنك أن تسمع ولو كلمة عيب واحدة في حق أحد، ولا شتيمة، ولا حتى تعريض بأشخاص حاربوا مولاي عبدالله بلا هوادة، كل ما تسمع من الرجل (أفكار، تحاليل، رؤية، وحتى شكاوى من الأوضاع) كان نقدا للسياسات لا للأشخاص. إذ كان لا يذكر الحسن الثاني ورضى اكديرة مثلا، إلا وأردف (رحمهما الله).

مرة، وبنزق الشباب حملت له عددا من جريدة (les phares) التي كان يصدرها رضى اكديرة، وعليها صورة مركبة لمولاي عبدالله إبراهيم، وهو يبتسم، لكن يديه تقطران دما، وتحت هذه الصورة المركبة كُتب عنوان: «لا تنظروا إلى ابتسامته، ولكن انظروا إلى يديه»… ابتسم لما عرضت عليه الصورة وقال، لا تشغل نفسك بهذه الأشياء، الأشخاص عابرون والوطن باق، والسؤال هو أي وطن سنتركه للأجيال القادمة؟…

ثانيا: دخل مولاي عبدالله إبراهيم في عزلة سياسية كبيرة بعد إجهاض حكومته، وبعد القمع الذي سلط على حزبه، وبعد الاختلافات العميقة التي اخترقت نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وبعد أن اتضح له أن نظام الحكم آنذاك، لم يكن في نيته إطلاقا بناء دولة ديمقراطية حديثة في خدمة الشعب، وهذا كان واضحا منذ اليوم الذي استقبل فيه الراحل محمد الخامس مولاي عبدالله إبراهيم ليخبره بقرار إعفائه من الحكومة، حيث لم يجرؤ السلطان، الذي عرف بدماثة أخلاقه، على رفع عينيه في مولاي عبدالله إبراهيم كما حكى لي شخصيا، إذ لم يكن بطل التحرير مقتنعا برحيل رئيس حكومته نظرا للإنجازات الكثيرة التي قام بها في وقت وجيز خاصة، ووزارة المالية التي كانت عند شاب لامع اسمه عبدالرحيم بوعبيد…

اعتزل مولاي عبدالله إبراهيم بورصة الانتخابات لسبب واحد هو أنه لم يكن مقتنعا بالتفاوض حول جرعة الديمقراطية، ودرجة العدالة الاجتماعية، ومستوى بناء الدولة الحديثة، ومقدار شرعية الوثيقة الدستورية، كان ملكيا ولم يكن مخزنيا، كان مرنا في الوسائل صلبا في الأهداف، ولهذا عندما بدا له أن الأمور تتجه نحو تمييع السياسة والانتخابات والاستفتاءات، رجع إلى الوراء وظل حكيما يقول كلمته ويمشي…

ثالثا: عبدالله إبراهيم جسد مثالا نادرا على زواج الثقافة بالسياسة، والنضال بالمعرفة، والوزارة بالأدب، والحركة بالتأليف والكتابة… كم من سياسي اليوم، يستطيع أن يكتب مقدمة لكتاب أدبي، وكم من سياسي يستطيع أن يكتب قصيدة بالفرنسية، وكتابا بالعربية، ومؤلفا في الدين والفكر والفلسفة والتاريخ…

إنه جيل انقضى وجاء بعده جيل لم يرث غير أعطاب المشهد السياسي المغربي، بكل فقره المادي والروحي، وبكل صفقات (اعطيني نعطيك)، التي حولت السياسة إلى «بازار» تركي، كل شيء فيه قابل للمساومة والمزايدة و(اللي غفل طارت عينه).

هذا هو عبدالله إبراهيم في صوفيته وصلابته وعفة نفسه ولباقة عبارته، يوم التقى مع الملك محمد السادس قال له جملة واحدة تشكل برنامجا كاملا لعهد جديد، دون ثرثرة، قال الحكيم عبدالله إبراهيم للملك الشاب: «اتخذ من جدك قدوة لا من أبيك». رحم الله الجميع..

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مولاي عبد الله كما عرفته مولاي عبد الله كما عرفته



GMT 19:34 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 19:31 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 19:28 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 19:19 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 19:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 19:14 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

GMT 18:02 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفاء والاستحياء

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib