السياسة الجنائية

السياسة الجنائية

المغرب اليوم -

السياسة الجنائية

بقلم : توفيق بو عشرين

ماذا يجري في وزارة العدل والحريات هذه الأيام؟ وماذا يقع وسط النيابة العامة في المملكة التي تتخبط في فوضى عارمة؟ وماذا حل بالسياسة الجنائية التي لم يعد أحد قادرا على فهم توجهاتها، ولا استيعاب منطقها في تحريك المتابعات وتكييف الملفات؟

الداعي إلى هذه الأسئلة المحرجة والحساسة هي الوقائع التالية:

استدعاء أمين عام حزب الاستقلال، حميد شباط، من قبل الشرطة القضائية للتحقيق معه في واقعة نشر مقال في الموقع الرسمي لحزب الاستقلال حول «وادي الشراط». هذه أول مرة في تاريخ محاكمات الصحف يُستدعى فيها رئيس حزب سياسي ليسأل عما نشر في جريدة أو موقع تابع للحزب، له مدير نشر وهيئة للتحرير، فقانون الصحافة والنشر لا يسمح إطلاقا للنيابة العامة ولا للمحكمة باستدعاء سوى مدير النشر والصحافي الذي وقع المقال موضوع المتابعة، وليس رئيس الحزب الذي تنطق الجريدة أو الموقع بلسانه، ولهذا لم نر ولم نسمع عن استدعاء علال الفاسي ولا امحمد بوستة ولا عبد الرحيم بوعبيد ولا غيرهم عندما كان مديرو نشر جرائد العلم والمحرر والاتحاد، وغيرها من الجرائد، يحاكمون… هذا من حيث القانون، أما من حيث السياسة فإن استدعاء شباط، مهما كانت أخطاؤه وخطاياه، إلى الكوميسارية، على بعد أسابيع من عقد المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال، معناه أن هناك شبهة تدخل في مجريات المؤتمر، وأن صورة أمين عام حزب سياسي تتعرض للخدش في عيون أتباعه أو أنصاره، وهذا ما لا يدخل في عمل النيابة العامة ولا وزارة العدل والحريات، التي يجب أن تبقى على مسافة محترمة من الشأن السياسي مهما كانت الخصومة التي تجمع السلطة بالأحزاب، فهناك وسائل سياسية لتصفية الحسابات غير القانون الجنائي وأقفاص الاتهام في المحاكم. أقول هذا الكلام وأنا واحد من الذين انتقدوا شباط منذ أعلن نيته الترشح للأمانة العامة لحزب الاستقلال قبل خمس سنوات، أما وقد صار جريحا، فليس من الشجاعة إطلاق النار على سيارات الإسعاف.

الواقعة الثانية التي تظهر ارتباك النيابة العامة وتخبط السياسة الجنائية للدولة، هي تقديم شباب الفايسبوك، الملقبين بفرسان العدالة، إلى محكمة الإرهاب عِوَض محكمة الصحافة والنشر، واتجاه النيابة العامة، بمساعدة وزارة الداخلية، إلى تكييف الملف، منذ اليوم الأول، على إنه إشادة بالإرهاب ثم تحريض على الإرهاب، والحال أن جريمة الشباب هي الإشادة بجريمة سياسية، فقتل السفير الروسي في أنقرة ليس عملا إرهابيا، حسب تعريف القانون المغربي للإرهاب، فضلا عن القانون الدولي. قتل السفير الروسي، على بشاعة الجريمة التي تمت أمام الكاميرات وعلى سذاجة من تصور القاتل بطلا، هي جريمة سياسية اقترفها شرطي نظامي تابع لجهاز أمن دولة معترف بها في الأمم المتحدة. عِوَض أن يذهب الملف إلى محكمة جرائم الصحافة والنشر، حسب القانون الجديد الذي يدرج الجريمتين معا، جريمة الإشادة والتحريض على أعمال إرهابية بواسطة النشر، في المادة 72 (التي تنص على أن الإشادة بجرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة أو جرائم الإرهاب يعاقب عليها القانون بغرامة من 100 ألف درهم إلى 500 ألف درهم ضد كل من قام بسوء نية بالتحريض المباشر على ارتكاب الجرائم المتعلقة بالقتل أو الاعتداء على الحرمة الجسدية للإنسان، أو الإرهاب أو السرقة أو التخريب، والإشادة بجرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة الجماعية أو جرائم الإرهاب)، ذهب ملف ستة شبان إلى محكمة الإرهاب، وجرى تكييف الجريمة بمقتضى قانون الإرهاب، الذي هو نفسه لا يتسع لمثل جريمة اغتيال السفير، حيث ينص الفصل الأول من قانون الإرهاب المغربي، رغم كل نقائصه التي أشار إليها المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مذكرة صادرة بتاريخ يناير 2015، على أنه «تعتبر الجرائم أفعالا إرهابية، إذا كانت لها علاقة عمدا بمشروع فردي أو جماعي يهدف إلى المس الخطير بالنظام العام بواسطة التخويف أو الترهيب أو العنف»، وهذا ما يبعث على الاستغراب، إذ ما جدوى وضع قانون خاص للصحافة والنشر إذا لم يطبق على الصحافة والنشر، فالقانون الخاص أولى بالتطبيق من القانون العام، والدولة لا يمكن أن تعزف على القانونين في الوقت نفسه.

للتذكير، فقد سبق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان أن وجه مذكرة إلى البرلمان، ضمنها ملاحظاته وانتقاداته لتعريف المشرع المغربي لقانون الإرهاب وجريمة الإشادة بالإرهاب، وقال: «يسجل المجلس انشغاله بخصوص صيغة الفقرة الثانية من الفصل 218/2 من مشروع القانون باعتبار هذه الصيغة تنزع إلى توسيع مدى جريمة الإشادة بالإرهاب، ما يضعف من وضوح التعريف القانوني لهذه الجريمة. وهذا الاتجاه إلى توسيع مفهوم الإشادة بالإرهاب تعرض لنقد منتظم من طرف إلهيآت والمنظمات الدولية».

أكثر من هذا، وضع المجلس الوطني لحقوق الإنسان ثلاثة ضوابط لتعريف الإرهاب والإشادة به منعا لتوسيعه، وحتى لا يطال جرائم أخرى مشابهة، وكتب في مذكرته، نقلا عن المقرر الخاص مارتين شاينين: «ينبغي أن يقتصر استعمال عبارة جرائم الإرهاب على الحالات التي تتوفر فيها الشروط الثلاثة التالية: أولا، أفعال ترتكب بنية القتل أو التسبب في إصابات جسمانية خطيرة أو أخذ رهائن. ثانيا، أن يكون القصد هو إشاعة حالة من الرعب وتخويف السكان، أو إرغام الحكومة أو منظمة دولية على القيام بعمل ما أو على عدم القيام به. ثالثا، ارتكاب جرائم تقع ضمن نطاق الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية المتعلقة بالإرهاب وتطابق التعريف الوارد فيها».

يتضح أن وزارة الداخلية، التي أصبحت تشترك مع وزارة العدل في توجيه النيابة العامة عبر بلاغات صحافية، لم تنتبه إلى أن القانون لا يسمح لها بالتدخل في توجيه الملفات المعروضة على القضاء، كما أن وزارة العدل يجب ألا تفوض، بحال، اختصاصاتها إلى وزارة الداخلية في هذا الملف وفي ملفات أخرى، فليس أخطر على الحريات من تداخل الاختصاصات، وليس أخطر على الأمن القضائي من سقوط الحواجز التي تفصل بين السلط. هل يصحح القضاء أخطاء النيابة العامة ووزارة الداخلية؟ ربما، وإن كنت أرى أن العبء فوق ظهره القصير ثقيل.

الواقعة الثالثة التي تدل على ارتباك السياسة الجنائية في البلد وسير العدالة هي ظهور خالد عليوة، المتابع في ملف القرض العقاري والسياحي، في واجهة اللجنة التحضيرية للمؤتمر المقبل لحزب الاتحاد الاشتراكي، منظرا للتخلي عن الملكية البرلمانية، ولميلاد حزب جديد من رحم الوردة، فيما قاضي التحقيق مازال يبحث عن السيد عليوة ليكمل معه التحقيق في المنسوب إليه في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، ومحضر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، واتهامات النيابة العامة. المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، لكن من واجب هذا المتهم المثول أمام القضاء عنوانا عن وجود شبه هيبة للقانون وشبه دولة للحق لا تنظر إلى المواطنين بحسب انتماءاتهم أو أسمائهم أو أحزابهم أو رسائل العزاء في أمهاتهم… أليس كذلك أيها السادة…

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السياسة الجنائية السياسة الجنائية



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 06:38 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة
المغرب اليوم - السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة

GMT 08:46 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

المغربية ابتسام تسكت تكشف عن جديدها الفني المُرتقب عرضه
المغرب اليوم - المغربية ابتسام تسكت تكشف عن جديدها الفني المُرتقب عرضه

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib