حديث في السياسة

حديث في السياسة

المغرب اليوم -

حديث في السياسة

بقلم - توفيق بو عشرين

الصحافي راوي قصص، شرط أن تكون واقعية، ولها مغزى عام، وهذه واحدة من القصص والحوارات التي تجمع الصحافي بمحيطه.
جمعتني جلسة غداء الأسبوع الماضي في مطعم بالرباط بزميل دراسة قديم، ودار الحديث حول جملة من الموضوعات، إلى أن وصلنا إلى السياسة والصحافة. صديقي هذا طبيب درس في المغرب، وأكمل تخصصه في فرنسا. بعدما سألني عدة أسئلة حول الراهن السياسي، وحول مستقبل الحكومة، وسبب تأخر تعيين وزير الصحة، الذي يهمه بحكم المهنة، وعن مفارقة أن الحكومة تشكلت في أسبوعين، فيما التعديل الجزئي لتعويض أربعة وزراء مر عليه أكثر من شهرين، ولا بشائر في الأفق عن قرب حصوله، وصل إلى بيت القصيد، وبدأ الحوار بين طبيب وصحافي. إليكم نصه دون رتوش تقريبا.
الطبيب: أتابع جل كتاباتك، وأرى أنك مهموم، لماذا؟
الصحافي: ولماذا لا أكون مهموما بمستقبل بلدي واستقرار وطني وغد أبنائي وأبنائك؟ الهم من علامات المواطنة، أليس كذلك؟
الطبيب: هذا كلام روايات ودواوين الشعر، البلد «نتاع» أصحابها، ونحن ضيوف عندهم إلى إشعار آخر، فهم لا يلتفتون إلى ما تكتبه الصحافة، ولا إلى ما تقوله الأحزاب، ولا إلى ما يصدر عن النقابات، ولا إلى ما يعتمل في بطن المجتمع. كل هؤلاء عندهم مجرد «قطع ديكور»، لا يتذكرونهم إلا زمن الإحصاء أو الانتخابات أو دفع الضريبة، أو إذا تمردوا وخرجوا إلى الشارع، غير هذا، فإن البشر هنا لا يساوي جناح بعوضة… لهذا، التفت إلى مستقبلك أنت واستقرارك أنت، ولا تتعب نفسك مع السلطة ولا مع الشعب.
الصحافي: ما تقوله اسمه المشروع الخاص، وهناك مشروع آخر اسمه المشروع العام، ولا يوجد تعارض في الاهتمام بهما معا، في بلد يحتاج إلى كل أبنائه… المغرب ليس رسما عقاريا مسجلا باسم أحد، هو ملكية جماعية، إلا من أقصى نفسه، وأحد الأسباب الرئيسة التي جعلت السلطة تتحول إلى التسلط، والحكم إلى تحكم، هو الاستقالة الجماعية لجل المواطنين من وظيفة الاهتمام بالمشروع العام وليس الخاص، هنا مربط الفرس.
الطبيب: عن أي فرس تتحدث؟ ليس في النخب الحزبية إلا «فئران تجارب»، وقد روضت حتى ما عادت تشعر بالكم الهائل من الاختلالات التي تعيش وسطها. قبل أسبوع قرأت عن تجربة دالة عن عملية الترويض التي خضعت لها مجموعة من الضفادع في مختبر علمي، حيث وضعت المجموعة الأولى في حوض ماء ساخن كانت درجة حرارته ترتفع تدريجيا من وقت إلى آخر، فترى الضفادع تتأقلم مع حرارة 10 درجات، ثم 15 درجة، ثم 20 درجة، ثم 25 درجة، وصولا إلى 40 درجة، عندها ماتت الضفادع دون مقاومة لأنها كانت كل مرة تتأقلم مع الحرارة «الأزمة»، في حين أن المجموعة الثانية من الضفادع وضعت مباشرة في مياه ساخنة بدرجة 40 درجة، فما كان منها إلا أن انتفضت وقفزت خارج الحوض الذي لا تطاق حرارته. السر كله في «التعود» والتدجين التدريجي للوعي، والنتيجة أمامك.. شعب فقد الإحساس بحرارة الحوض الذي يعيش فيه.
الصحافي: هنا أنا أتفق معك نسبيا.. «التدجين التدريجي» للنخب إحدى آفات الحياة السياسية في بلادنا، وواحد من المخاطر، حيث لا يمكنك أن تتوقع رد فعل الشارع عندما لا يصبح قادرًا على احتمال حرارة الخصاص الاجتماعي والاقتصادي.
الطبيب: مشكلة الشعب أنه لا يربط بين وضعه السياسي ووضعه الاجتماعي والاقتصادي، ولا يتحرك للضغط على مراكز القرار من أجل الإصلاح إلا عندما تصل السكين إلى العظم، عندها يتحرك مرة بطريقة حضارية، ومرة بطريقة فوضوية، ثم يرجع إلى وضعه الأول، فتعمد الدولة إلى احتواء غضبه، وتغيير طريقة التعامل معه دون أن تغير جوهر حكمه. انظر ماذا وقع بإرث الربيع المغربي، وماذا جرى للدستور المسكين، فكيف تريد للناس أن يهتموا بالسياسة؟
الصحافي: الإصلاح مثل السير فوق دراجة هوائية، إذا توقف الراكب عن الحركة يسقط، وهذا ما يقع في المغرب الذي تطور كثيرا في العشرين سنة الماضية على مستوى البنيات التحتية، ونمط العيش، وشيء من حقوق الإنسان، ودرجة من احترام شفافية الاقتراع، لكن كل هذه التطورات الكمية لم تفرز نقلة نوعية، فدائما ما يأكل التقليد التحديث، وتتغذى المحافظة على العصرنة، والسلطوية على المكاسب الديمقراطية، فندور في حلقة مفرغة، وفي نمط الانتقالات الدائمة التي لا تنتهي، والتي لا تنقلنا إلى أي مكان. لقد رفعنا شعار الاقتصاد أولا، ثم اكتشفنا أن النموذج الاقتصادي الذي سرنا عليه مفلس، ثم رفعنا شعار الاجتماعي أولا، ثم اكتشفنا أن الفقر يزداد والهشاشة تتمدد، ثم رفعنا شعار تازة قبل غزة، ثم اكتشفنا أن الشعب لا يضع تازة أمام غزة، بل يهتم بتازة وغزة في الوقت نفسه، وهكذا كل مرة نضع أولوية ونكتشف أننا لم ننجز منها إلا القليل، ثم نرجع إلى السياسة، فنتقدم فيها خطوة إلى الأمام، ثم نتراجع خطوتين إلى الوراء.
الطبيب: انظر إلى حال بنكيران يقول لك كل شيء.. رجل، مهما اختلفنا معه، خاض تجربة عمرها خمس سنوات، وتحمل المسؤولية، وذهب إلى الشعب يطلب صوته لخوض تجربة ثانية، فماذا كانت النتيجة؟ ربح في الانتخابات وهزم في المفاوضات، وخرجت حكومة لا تشبه صناديق الاقتراع، وها هو بنكيران اليوم في بيته مكسور الخاطر، «المخزن حكم عليه بالإعدام السياسي، وإخوانه نفذوا الحكم فيه»… لا الإسلاميون ولا الاشتراكيون ولا الليبراليون ولا المحافظون مستعدون لخوص معركة الديمقراطية الحقيقية، والتضحية بالمناصب من أجل المبادئ، ومادام هناك بيع وشراء، فستظل السياسة سوقا مفتوحا لبيع الوهم للشعب والريع للنخب.
الصحافي: السياسيون مثل الشعراء أبناء بيئتهم، صحيح أن لهم مسؤولية، ومسؤولية كبيرة، لكن الشعب هو أيضا مسؤول عما يجري، وعدم اهتمامه بما يدور فوق مسرح السياسة يجعل الفاعلين بلا عمق شعبي، ولا قدرة على المقاومة، ثم إن الدولة أيضا مسؤولة عن تهشيم بيوت الأحزاب، وتخريب دور الزعماء الذين يثق فيهم الناس، ويشكلون أعمدة التأطير السياسي والاستقرار الاجتماعي، ولا بد من وضع الأصبع على هذا الجرح.
الطبيب: إنها الأمية التي تغرق ثلث الشعب وتحجب عنه الرؤية.
الصحافي: أمية القراءة والكتابة لا تفسر كل شيء، فالمواطن الأمي له خبرة في الحياة، يبيع ويشتري كل يوم، ويختار شركاءه في التجارة، ويقول رأيه في زوج ابنته، وليس المطلوب منه أن يقدم محاضرات في الفيزياء النووية، أو في فلسفة باشلار، المطلوب منه أن يذهب لاختيار من يمثله في صندوق الاقتراع على أسس سليمة تخدم مصلحته، وأن يشارك في هموم بلده، ويحاول أن يفهم ما يجري حوله، وهذا أمر ليس بالمعقد.
انتهى الحوار من حيث بدأ، الطبيب يائس، والصحافي متفائل رغم كل إشارات التشاؤم التي تلوح في الأفق، وتنهي سنة من الأجندة المغربية، وتستقبل أخرى.. سنة سعيدة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حديث في السياسة حديث في السياسة



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 16:52 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مباحثات مغربية أميركية لتعزيز التعاون العسكري المشترك
المغرب اليوم - مباحثات مغربية أميركية لتعزيز التعاون العسكري المشترك

GMT 15:34 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام
المغرب اليوم - سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام

GMT 08:18 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج القوس الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 17:18 2022 الأربعاء ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

« بكتيريا متطرفة » لإزالة التلوث النفطيِ

GMT 23:41 2018 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

هامبورغ أكثر الأماكن المذهلة لقضاء شهر العسل

GMT 14:14 2017 الإثنين ,05 حزيران / يونيو

اتحاد طنجة يخطط لضم نعمان أعراب من شباب خنيفرة

GMT 16:18 2024 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

الإتحاد الأوروبي يطلّق تحقيقاً مع تيك توك ويوتيوب

GMT 22:58 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

الأحرش بطلا للمغرب في القفز على الحواجز

GMT 02:12 2021 الجمعة ,17 أيلول / سبتمبر

أجمل المعالم السياحية في جزيرة كريت اليونانية

GMT 16:08 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

بني ملال تبحث تدبير ما بعد فترة "الحجر الصحي"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib