أين اختفى شعب اليسار

أين اختفى شعب اليسار؟

المغرب اليوم -

أين اختفى شعب اليسار

بقلم - توفيق بو عشرين

بعث حزب اليسار الاشتراكي الموحد، نهاية الأسبوع الماضي، من قاعة مسرح محمد الخامس بالرباط، رسالتين متناقضتين إلى المهتمين بمستقبل اليسار في المغرب؛ الأولى سلبية جدا تقول إن هذا الحزب مكانه الطبيعي هو يسار اليسار، وأنه منغلق على نفسه، ولم يخرج بعد من عيادة الأمراض اليسارية القديمة، وأنه يخاف الانفتاح على طاقات جديدة وأجيال جديدة وخطابات جديدة، لهذا قضى ثلاثة أيام في نقاش لائحة الضيوف، وانتهى إلى إقصاء الحزب الأول في المشهد السياسي (العدالة والتنمية)، والجماعة الأكبر في المجتمع (العدل والإحسان) من لائحة المدعوين إلى حفل الافتتاح، ثم لم يقف هنا، بل أصر أتباع تيار معين على إهانة من حضر من الضيوف إلى المؤتمر بالصراخ والصفير في وجوههم، فقط لأنهم مختلفون معه، وكأن هذا التيار لم يبرح ساحة الجامعة والأجواء المشحونة التي كانت عليها في السبعينات والثمانينات والتسعينات… هذه الرسالة تقول إن الإيديولوجيا عندما تبتلع السياسة تنتج العدمية والتقوقع والراديكالية غير المنتجة لأي فعل إيجابي في المجتمع.
الرسالة الثانية التي بعثها مؤتمر الاشتراكي الموحد كانت إيجابية، خاصة عندما انتصر بفارق كبير لأطروحة «الأفق الجديد» التي كتبها محمد الساسي، وتبنتها نبيلة منيب ومن معها، وهي أطروحة تعد بعرض سياسي جديد، وبأساليب تنظيمية جديدة، وبنفس إصلاحي جديد، وبمشروع سياسي منفتح ومرن، ويفهم حجم التحولات العميقة التي وقعت في المغرب وفي العالم سياسيا واقتصاديا ومعلوماتيا وجيواستراتيجيا… هذا المشروع، الذي لا تستهويه أوراق الأحزاب وكراسات المؤتمرات، هو ما يعبر عنه اليوم الوجه الجديد لليسار، عمر بلافريج، النائب البرلماني الذي يصور «بودكاستر» كل أسبوع، ويبعثه إلى أصدقائه ورفاقه والمتعاطفين معه، حيث لا يثقل على الجمهور بشرح الأسس النظرية للماركسية، ولا تعقيدات الصراع الطبقي، ولا لائحة هجو الإمبريالية، بل يقدم مواقفه من سياسة الحكومة، ومقترحاته القانونية في البرلمان على مشاريع القوانين التي تهم الفئات الشعبية، مثل التعليم والبطالة والصحة وحقوق الإنسان وقضايا الحكامة. وكل هذا بلغة عربية مبسطة، والتزام أخلاقي واضح، وانطلاقا من حساسية اجتماعية وخط سياسي واضح، والباقي متروك للتقدير والمرونة والبحث عن مساحات مشتركة للعمل مع الآخر المختلف، دون استعلاء إيديولوجي، ولا تقوقع سياسي في نموذج «تطهري».
البلاد بحاجة إلى حزب يساري كبير في زمن يطالب فيه الجميع بنموذج اقتصادي جديد، لن يكون إلا نموذجا مختلطا، لا هو رأسمالي اتضحت عيوبه الكبيرة، ولا هو نموذج اشتراكي أو شيوعي عفى عليه الزمن… اليسار مني بخسائر فادحة في 20 سنة الماضية، وترك الساحة فارغة لعرضين لا ثالث لهما؛ عرض الإسلاميين المحافظين الذين لا خبرة لهم في إدارة الدولة، وليس لديهم التزام عميق بالدفاع عن الديمقراطية، وعرض المخزن المتمثل في حزب الجرار الذي لا يملك مصداقية اجتماعية ولا تجذرا في التربة المغربية، بل هو تحالف مصلحي بين قدماء محاربي اليسار وأعيان وتجار الانتخابات… والنتيجة ما نراه اليوم من فقر سياسي وهشاشة في تموقعات الأحزاب، وتمرد الحركة الاجتماعية على أي أطر سياسية.
في 2016 نشرت جريدة الواشنطن بوست استطلاع رأي قام به خبراء جامعة هارفرد بين عينة واسعة من الشباب الأمريكي، بين 18 و20 سنة، حول نظرتهم إلى النظام الرأسمالي الذي يعيشون في ظله، فكانت النتيجة على الشكل التالي: 42% ساندوا النظام الرأسمالي، لكن 51% عبروا عن معارضتهم هذا النظام الذي ولدوا تحت رايته. هذا الاستطلاع كشف خيبة أمل الجيل الجديد في أمريكا من نظام اقتصاد السوق، والسبب هو حجم البطالة الذي يخلقه، وحجم التفاوتات الاجتماعية التي يخلقها. قبل هذا الاستطلاع قام معهد Pew Institute بدراسة أوسع لرأي شباب الغرب في النظام الرأسمالي، فكانت النتيجة 46% كانت لهم نظرة إيجابية عن نمط الاقتصاد الرأسمالي، و47% كانت لهم نظرة سلبية عن هذا النمط. طبعا هذا لا يعني أن النسبة الأخيرة مع النمط الاشتراكي أو الشيوعي. لا، أبدا، النسبة الأخيرة تعبر عما لا يريده الشباب اليوم الأكثر تعلما والأكثر انفتاحا والأكثر اتصالا مع بعضه البعض.
لقد ذابت نظرية «نهاية التاريخ» بعد أقل من 26 سنة من صدورها بمناسبة انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991… هذه النظرية كانت تقول بالانتصار النهائي للنظام الليبرالي وسط النظام الرأسمالي الغربي على ما دونه.
إذا كان هذا صحيحا في أمريكا وأوروبا، حيث الطبقة الوسطى عريضة، وتمتلك أدوات للضغط على الأغنياء في صناديق الاقتراع وفي البرلمان وفي النقابات، وحيث الدولة هناك تمتلك عدة ميكانيزمات للتدخل في اقتصاد السوق، وللبحث عن آليات للتوازن الطبقي بين الفئات، فما بالك هنا في المغرب، حيث الفئات الهشة بلا سلاح ولا أدوات مقاومة ولا آليات لتحقيق التوازن بين من يملك كل شيء ومن لا يملك أي شيء، في ظل اقتصاد تابع وضعيف وريعي فوق هذا… البلاد بحاجة إلى حزب يساري كبير وحديث ومتجدد، يعبر عن طموحات فئات واسعة، ويحدث التوازن المختل في المشهد، ويهيئ للتناوب الجديد، عله يكون جديا وحقيقيا هذه المرة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أين اختفى شعب اليسار أين اختفى شعب اليسار



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 16:17 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"القوس" في كانون الأول 2019

GMT 21:52 2019 السبت ,03 آب / أغسطس

"الفيل الأزرق 2" يعيد قوة موسم الصيف

GMT 16:19 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

انتبه لمصالحك المهنية جيداً

GMT 14:20 2019 السبت ,29 حزيران / يونيو

طارق مصطفى يساند المنتخب أمام ساحل العاج

GMT 00:51 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

إسعاد يونس تعدّد صفات شريف مدكور برسالة دعم

GMT 09:39 2019 السبت ,06 إبريل / نيسان

أفضل الطرق لتسريحات الشعر الكيرلي في المنزل

GMT 05:32 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

قطر تُقرر مقاطعة نجوم " روتانا " بسبب الأزمة الخليجية

GMT 03:41 2015 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ستيفن كاري يشيد بجهود ليونيل ميسي مع "برشلونة" في الدوري

GMT 01:31 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

أحمد صلاح حسني يشيد بشخصيته في مسلسل "أبواب الشك"

GMT 18:51 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الديكورات الفرنسية الكلاسيكية لمنزل أكثر أناقة

GMT 14:23 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

ميلان الإيطالي يبدأ التفاوض مع لاعب تشيلسي فابريغاس
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib