بقلم : توفيق بو عشرين
قبل أن تصير الصحافة سلطة رابعة حقيقية في إنجلترا، كانت تتصرف بمنطق أضواء قانون السير.. الأخضر والأصفر والأحمر. أمام الأخضر هناك أخبار المجتمع والنخبة السياسية والاقتصادية والفنية والفكرية، وهذه موضوعات تتحرك أمامها الصحافة بلا محاذير، سوى ما تفرضه المهنة من قواعد وأخلاقيات، وهناك الضوء الأصفر، وأمامه موضوعات حساسة تتصل بالجيش والمخابرات وأسرار الدبلوماسية والدفاع، وهذه موضوعات تقترب منها الصحافة بحذر شديد، وغالبا ما تخفض السرعة أمامها، وربما تستعد للوقوف، كأي سائق سيارة يحترم قانون السير، أما اللون الأحمر، فأمامه موضوعات بالغة الحساسية، مثل أسرار الأسرة الحاكمة، والأخبار التي تزعج الجالس على عرش بريطانيا. هذه كانت أخبارا خارج النشر، تتداولها نخبة الصالونات والبارونات، لكنها لا تخرج للعموم.
في واحدة من القصص الصحافية التي زعزعت مكان الألوان الثالثة في بريطانيا، إبان الخمسينات من القرن الماضي، كانت حكاية حساسة تتعلق بغرام أخت الملكة إليزابيث الأميرة مارغريت، بضابط طيران يشتغل في البلاط، وحساسية الموضوع سببها أن الضابط مطلق وزوجته مازالت على قيد الحياة، وتداعيات قصة الملك إدوارد مازالت طرية يوم تنازل عن العرش لأنه وقف في وجه تقاليد الكنيسة الإنغليكانية التي تعارض الطلاق، وتعارض أكثر زواج الملوك والأمراء من مطلقات ومطلقين.
في هذه الأجواء ينقل مخرج فيلم «the crown»، بيتر مورغان، حوارات شيقة حول علاقة الصحافة بالتاج، أي علاقة السلطة الرابعة بالسلطة الأولى في مملكة محافظة، وكيف تطورت حتى صارت الصحف تتعامل مع أخبار القصر بلا عقد ولا خوف ولا محاذير أمام حكم واحد هو الرأي العام.
دخل صحافي التحقيقات عند رئيس تحريره في إحدى أعرق الصحف البريطانية طالبا الإذن لكتابة تحقيق حول الأميرة مارغريت وعلاقتها الغرامية بضابط طيران في بلاطها، فرد عليه رئيس التحرير باستغراب: «وكيف عرفت أن للأميرة علاقة غرامية مع واحد من طاقمها؟»، فاقترب الصحافي الشاب من رئيس تحريره، ومد يده إلى كتفه وبدأ يزيل بعض آثار الشعر المتساقط من رأسه على سترته، فاستنكر رئيس التحرير هذا التجرؤ عليه من قبل صحافي شاب، فقال الأخير: «أعتذر يا سيدي، لكن هذا هو جوابي عن سؤالك، لو كانت تجمعك علاقة حميمة معي ما كنت لتستنكر هذه الحركة، لكن وبما أن علاقاتنا مجرد علاقة مهنية ها أنت تغضب مني»، فرد رئيس التحرير بعصبية: «وما علاقة كل هذا بما نحن فيه؟»، فقال الصحافي: «يوم أمس كنت أغطي أحد الأنشطة الثقافية في المسرح، ولمحت الأميرة مارغريت وهي تزيل بقايا الشعر من على كتف الضابط، هل تعتقد أنها تقوم بالشيء نفسه مع كل أفراد خدمتها؟». سكت رئيس التحرير برهة، وقال للصحافي: «أنا احتاج إلى أخذ رأي مالك دار النشر التي تصدر الجريدة قبل النشر، وأنت تحتاج إلى التحري أكثر حول الموضوع، وكتابة تحقيق يقنع القارئ ويجذب اهتمامه، وإلا فأنا وأنت معرضان للطرد من العمل، هل فهمت؟».
توجه رئيس التحرير إلى مالك الجريدة، وهو واحد من بارونات النخبة البريطانية، فعرض عليه موضوع التحقيق الذي تشتغل عليه الجريدة، فرد صاحب الدار وهو في حالة ذهول: «هذا موضوع أكثر من حساس، هذا موضوع يخرق كل القواعد المتعارف عليها بين الصحافة والقصر»، فرد رئيس التحرير بحماس وثقة كبيرين: «عن أي قواعد تتحدث يا سيدي؟»، فرد صاحب الجريدة: «القواعد غير المكتوبة المتعلقة بالاحترام الواجب إظهاره للقصر من قبل الميديا»، فرد رئيس التحرير الكرة إلى مالك الجريدة: «لكن القواعد تغيرت»، فسأل الأخير مستغربا: «متى تغيرت؟»، فأجاب رئيس التحرير: «يوم سمحت الملكة الجديدة بنقل مراسيم تتويجها عبر التلفزيون، واختارت أن تقتسم مع الشعب جزءا من الطقوس التي كانت تجري بعيدا عن الناس، ووعدت بالتجديد وعصرنة التاج، وتزوجت من رجل غير بريطاني»، فرد مالك الجريدة على رئيس التحرير بعصبية من يجد صعوبة في إقناع الآخر ويعوّض عن ذلك بتوتر الأعصاب : «ما فعلته الملكة بإشراك الشعب في طقوس تنصيبها تنازل منها للبريطانيين، ولا يجب أن يكون مبررا لخرق التقاليد، ثم إننا لا نملك أن نحدد للملكة سرعة اتجاهها نحو التحديث، نحن نتبعها ولا نتقدمها». هنا لاحت لرئيس التحرير فرصة فتح عين مالك الجريدة على قوة السلاح الذي بين يديه، فقال له: «هذه فرصتنا لنظهر للشعب هل نحن سلطة رابعة أم مجرد أوراق تباع في الشارع العام؟ هل نحن صحافة تقود التغيير أم مجرد موظفين في البلاط يمشون خلف الموكب ويؤثثون المشهد؟ هل نحن مستقلون في قراراتنا أم تابعون»، فرد مالك الجريدة بعصبية مرة أخرى قائلا: «لا تعطني دروسا في الأخلاق، أعطني وقتا للتفكير في الموضوع والحديث مع قصر باكنغهام».
وكذلك صار، طلب مالك الجريدة موعدا مع رئيس ديوان الملكة إليزابيث، ولأن معرفة سابقة بينهما، كان الموعد قريبا والحوار مفتوحا. بدأ مالك الجريدة في بسط الموضوع أمام مدير الديوان الذي أخفى تضايقه من الموضوع حتى لا يعطي الانطباع بأن القصة صحيحة، ولما انتهى رد عليه حارس الطقوس العريقة قائلا بذكاء: «شكرا لك لأنك جئت تخبرني بما يروج من إشاعات في شارع الصحافة في لندن (Fleet Street)، وأنا على يقين أن أحدا من موظفيك في الجريدة لا يملك أن يفرض عليك نشر شيء إذا كنت لا تريده». الباب الذي حاول رئيس البلاط إقفاله أمام مالك الجريدة لم يغلق بهذه السهولة، فرد الأخير: «يا سيدي، أنا لا أستطيع كل صباح أن أمنع رئيس التحرير من نشر هذا الخبر أو ذاك»، فقاطع مدير الديوان الملكي محدثه وقال بعصبية: «كنت أعتقد أن هذا بالضبط هو الغرض من إنشاء وتمويل المؤسسات الصحافية»، فرد مالك الجريدة الذي أحس بالإهانة قائلا: «آسف يا سيدي أن أخبرك بأنك مخطئ في هذا الاعتقاد. تمويل الجرائد لا يملك كل هذه السلطة»، فرد مدير الديوان وهو يستعد لإنهاء المقابلة: «لماذا، إذن، جئت تخبرني بهذه القصة؟»، فقال رئيس التحرير بهدوء: «سأساعدك على معالجة تداعيات القضية بعد أن تنشر وتهيئ الأسرة المالكة لذلك، حتى لا تكون الصدمة قوية «. عندها وجه مدير الديوان آخر رصاصاته إلى قلب مالك الجريدة محاولا استدرار عطفه فقال: «اعلم أن نشر قصة مارغريت سيسبب الحزن والأسى للملكة ولكل العائلة وللشعب البريطاني»، فرد مالك الجريدة بطريقة خبيثة على مضيفه قائلا: «سيدي، تستطيع أن تتحدث عن مشاعر الأسرة الملكية التي تشتغل عندها، لكن، لا أنت ولا أنا يمكن أن نتحدث عن مشاعر كل البريطانيين»، فرد مدير الديوان بشكل يائس قائلا: «هل تريدني أن أجثو على ركبتي لأستعطفك لكي لا تنشر الموضوع؟»، فرد مالك الجريدة منهيا المقابلة: «لا سيدي، لأنك عندما ستجثو على ركبتيك لن تجدني أمامك في هذه الغرفة».
عندما خرج مالك الجريدة من هذه المقابلة العاصفة، اتصل برئيس تحريره وقال له: «أخبر الصحافي المكلف بالتحقيق في غراميات الأميرة مارغريت أنه أصبح يتوفر على مصدر آخر يؤكد القصة.. good luck». عندما نشرت القصة أحدثت دويا كبيرا في إنجلترا، لكن الملكة تعاملت مع الأمر بذكاء، فلم تنف القصة ولم تعلق عليها، لكنها بعثت الضابط الولهان ملحقا عسكريا في سفارة لندن في بروكسيل لإبعاده عن مارغريت وعن عدسات الكاميرات، ووعدت أختها بتدبير زواجهما بعد مدة حتى تهدأ الأمور، ويصبح المحافظون متقبلين فكرة زواج الأمراء والأميرات مدنيا وليس دينيا… ويوم سافر الضابط المغرم إلى بلجيكا، كتبت الصحف عنوانا مثيرا: «الحب الممنوع في القصر»، وأظهر الرأي العام تعاطفا لم يكن منتظرا مع العشيقين.. تعاطف فتح أعين الجميع على التغييرات التي حصلت في المزاج العام، فكانت الصحافة أمام القصر وليس خلفه، وهذا هو مربط الفرس.