نهاية آخر الرومانسيين

نهاية آخر الرومانسيين

المغرب اليوم -

نهاية آخر الرومانسيين

بقلم : توفيق بو عشرين

من كان يظن أن الرفيق فيديل كاسترو سيموت على فراشه عن عمر يناهز التسعين عاما، وهو الذي كان موضوعا، منذ نصف قرن، على لائحة CIA ضمن الشخصيات المطلوب اغتيالها اليوم قبل الغد؟ من كان يعتقد أن النظام الشيوعي في دولة صغيرة مثل كوبا سيصمد طوال هذا الزمن أمام ضربات الأخ الأكبر، أمريكا، وأن الذي نصب الصواريخ النووية السوفياتية في خليج الخنازير موجهة رؤوسها إلى البيت الأبيض، سيطول به المقام في السلطة كل هذه السنوات، وسيصمد إلى أن يأتي باراك أوباما فيرفع الحظر عن هافانا، ويزور آخر دولة شيوعية في العالم، موزعا الابتسامات والوعود والآمال في طَي صفحة الماضي؟
يحكي شيخ الصحافيين الفرنسيين، جون دانيال، أنه تقدم للعب دور الوساطة بين فيديل كاسترو والرئيس الأمريكي، جون كندي، الذي حاول اغتيال زعيم الثورة الكوبية أكثر من مرة، فبدأ رحلته من واشنطن، ثم نزل إلى كوبا، وفيما هو يتحدث مع فيديل كاسترو في مكتبه، فجأة دخل مساعده الأقرب، وأخبره بأن كيندي قتل برصاص أمريكي… انتهى الكلام وانتهت الوساطة، وانتقل الرئيس والصحافي إلى موضوع آخر.. هذا هو كاسترو.. مزيج من الفكر والثقافة والشعبوية والحظ والخطابة والسحر. رجل ينحدر من وسط بورجوازي صار أيقونة الدفاع عن الفقراء والمهمشين في العالم، كان حلمه، منذ وصل إلى الحكم سنة 1959، أن يصير لينين أمريكا اللاتينية، يجمع بين الفكر الثوري والسلطة من أجل إحلال جنة البروليتاريا فوق أرض مليئة بالمصالح والأنانيات وحب التملك والسعي إلى المال.. المال الذي قال عنه الإنجيل إنه أساس كل شر، وجاءت الرأسمالية وقلبت الآية وقالت: «نقص المال أساس كل شر».
ملأ كاسترو، على مدى 57 عاما من حكمه، البلاد بالخطب والوعود التي لم يتحقق منها سوى شيئين؛ السيجار الكوبي الرفيع، وقد أصبح عليه توقيع الزعيم، والطب، حيث نجح النظام الشيوعي في جعل البلاد مصحة كبيرة لطب متقدم ورخيص، ولولا الحظر الذي فرضته أمريكا على كوبا لانتقل جل فقراء أمريكا للتطبيب في ضيافة الزعيم الشيوعي، الذي فشل في كل شيء سوى في الطب وتصدير السيجار.
كان رأسمال كاسترو الوحيد معاداة أمريكا والتشنيع على الإمبريالية، حيث جعل من السياسة الخارجية محور الحكم، فالزعيم أكبر من أن ينشغل ببناء الطرق والمواصلات، وتوفير مناصب الشغل، وبناء المساكن، وتطوير الصناعات، وزيادة دخل المواطن… فيديل وتشي غيفارا كانا مولعين بتصدير الثورة إلى العالم، ومحاربة الدول الرأسمالية، ودفعها إلى دخول المتحف، باعتبارها من بقايا العصور الماضية. كل هذه الرومانسيات واليوتوبيات تآكلت مع الزمن، وغرقت مع آلاف الشبان الذين ماتوا وهم يهمون بعبور الأطلسي إلى أمريكا عدوة الشعوب. صدق البرادعي عندما قال: «عجبا لشعوب العالم الثالث، كلها تسب أمريكا، وكلها تحلم بالهجرة إليها.. إنها مفارقة تحتاج إلى تأمل». لم يشغل كاسترو نفسه بالديمقراطية ولا بالتعددية ولا بالحرية. كان يخطب ويخطب حتى يتعب منه الناس، فيقصدون بيوتهم للنوم استعدادا لخطاب جديد، ومن يعترض، يحرم من سماع خطاب الزعيم الموالي، فيرسل إلى السجن أو الإعدام، فلا مكان في كوبا لأعداء الثورة، و«الثورة هي أنا»، على وزن شعار «الدولة هي أنا»، الذي كان لويس الرابع عشر يردده…
قبل أن يموت الزعيم بسنوات، كان يشعر بالأسى وهو يشاهد إعلانات بلاده السياحية في المحطة الأمريكية CNN .. البلاد التي كانت تحلم بتصدير الثورة أصبحت تستورد السياح من فلوريدا وشيكاغو ونيويورك، وتوفر لهم الاستقبال الحسن على شواطئها الجميلة والعذراء. هذا كل ما تستطيعه هافانا في عصر صار بلا رومانسيات ولا شعارات ولا أحلام، ولا كاتب موهوب مثل غارسيا مركيز، يجلس إلى جانب الرفيق، يساعده على التخلص من الملل الناتج عن إدمان السلطة لما يفوق نصف قرن.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهاية آخر الرومانسيين نهاية آخر الرومانسيين



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib