نوستالجيا “العصا لمن عصى”

نوستالجيا: “العصا لمن عصى”!

المغرب اليوم -

نوستالجيا “العصا لمن عصى”

بقلم : جمال بودومة

في تلك السنوات القاسية، كان المعلمون عدوانيين بدرجة لا تصدق. مزاج البلاد بأكملها كان معكرا. أسلوب التواصل الأكثر رواجا هو العنف، اللغة الوحيدة التي يتحدث بها القوي مع الضعيف والكبير مع الصغير والأب مع الابن، والمعلم مع التلميذ والدولة مع المعارضة، كانت مرحلة عصيبة شعارها: “العصا لمن عصى”… بعض الفصول الدراسية كانت تشبه “مراكز تعذيب”. كان لصاكا والعشعاشي والحسوني، وغيرهم من الجلادين، أشباه وزملاء في المدارس، “تخصص أطفال”. بعضهم كان يبدع في طرف التعذيب، ويستحدث تقنيات لم يصل إليها خيال القيّمين على “الكاب 1” ودار المقري ودرب مولاي الشريف وسواها من الأماكن غير الشريفة في المملكة الشريفة. الفترة التي تُعرف بـ “سنوات الرصاص” تستحق أن نسميها أيضاً “سنوات قلم الرصاص”، وأن ننشئ من أجلها “هيئة للإنصاف والمصالحة”، تجمع بعض المعلمين الساديين وضحاياهم في جلسة استماع تنقل على التلفزيون، لعل أجيالا من المغاربة تتخلص من العقد التي تحتفظ بها في أماكن سرية، مثل تحف ثمينة، من سنوات المدرسة، ولعل بعض الحقوقيين العاطلين يجدون شغلا، على غرار من سبقهم من سماسرة “المصالحة”!

في ذاكرة كل واحد منا اسم أو وجه أو صفعة. أتذكر مدرس الفرنسية الذي كان يعلق التلاميذ من نافذة الفصل في الطابق الرابع، على سبيل التأديب، بسبب أو بدونه. يكون الذنب بسيطا: تلكؤ في التعبير أو خطأ في الكتابة أو نسيان S… والعقاب لا يخطر على بال إبليس. كان رجلا ساديا يحتاج إلى عيادة نفسية، وأرسلته لنا وزارة التربية الوطنية كي ينفّس عن عقده و”يربينا”. ومن ناحية التربية، كان “مربيا” خطيرا: يهجم على التلميذ والشرر يتطاير من عينيه، بعد أن يلعن أصله وفصله وسنسفيل جدوده، ثم يمسكه من تلابيب قميصه، ويجره نحو النافذة كما تجرجر الشاة إلى المذبح، وبقبضتيه الخشنتين، يرفع الجسد الضئيل عاليا ويدلّيه من النافذة. يظل التعيس يصرخ مثل دجاجة في مسلخ، والمعلم لا يتوقف عن الشتم والتهديد.

كان يحيى أكثر التلاميذ تعرضا للعقاب من طرف الجلاد الذي تصرف له وزارة التربية الوطنية راتبا كل شهر. لا أعرف هل كان عقابه المتكرر بسبب غبائه المفرط، أم فقط لأن بشرته سوداء، لكنني أتذكر أن المدرس قال له في ختام إحدى “حصص التعذيب”: “انتوما ما يصلح لكم غير بيتر بوتا”… لم نفهم المعنى وقتها، ولم يكن العبقري “گوگل” قد ولد بعد كي نسأله من يكون “بيتر بوتا”. كنا صغارا وكانت جنوب إفريقيا في عز الأبارتايد، ومانديلا في السجن، والعنصرية في دم كثير من المعلمين…

ذات يوم تحول تعذيب يحيى إلى قصة “تراجيكوميدية”. كانت عائلته تسكن غير بعيد عن المدرسة. عندما علقه المعلم كالعادة من نافذة القسم، و”بدا كيعيط لربي اللي خلقو”، تصادف أن والدته كانت تنشر الغسيل على حبل أمام البيت، لمحها التعيس من قمة رعبه، وطفق ينادي بكل ما تملّكه من وفزع: وا مّمّمّييييييييي….  أذن الأم طبعا لا تخطئ صراخ الابن، رمت المسكينة سلة الصابون وأطلقت سيقانها للريح في اتجاه المدرسة، قفزت السلالم مثنى وثلاث، إلى أن وصلت في وقت قياسي، منهارة وتنتحب: “حرام عليك ولدي آش دار ليك ولدي حرام عليك”…  بمجرد ما أنزل المدرس المتعجرف يحيى، ارتمى المسكين في أحضان أمه وهو يرتجف. كان منظرهما يشبه العبيد الذين ينكل بهم البيض في الأفلام الأمريكية أيام الميز العنصري… حدق فيهما “الكوبوي” باحتقار وقال لها بكل وقاحة: “ولدك غادي نطردو”…

لم يطرد المدرس السادي يحيى، لكنه غادر الدراسة طواعية في العام الموالي، وتخلص من حصص “التعلاق” إلى الأبد، مستقبله كان ينتظره بين صناديق الخضروات والفواكه في الأسواق الأسبوعية رفقة والده. آخر مرة رأيته كان معلقا ويصرخ… ليس في الفصل هذه المرة، ولكن جنب جبل من البرتقال، كان معلقاً فوق كومة من الصناديق وهو يصيح: “كيلو بخمسة وعشرين جوج بأربعين، زيد زيد، مول لمليح باع وراح”!

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نوستالجيا “العصا لمن عصى” نوستالجيا “العصا لمن عصى”



GMT 16:20 2020 الخميس ,30 كانون الثاني / يناير

سعيد في المدرسة

GMT 11:52 2020 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

تيفيناغ ليس قرآنا!

GMT 14:26 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

«بيعة» و «شرية» !

GMT 05:27 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

«لا يُمْكن»!

GMT 03:32 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

!الوهم الأبیض

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 09:19 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن
المغرب اليوم - فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن

GMT 04:55 2018 الثلاثاء ,07 آب / أغسطس

" Chablé" يمثل أجمل المنتجعات لجذب السياح

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 20:53 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

شجار بالأسلحة البيضاء ينتهي بجريمة قتل بشعة في مدينة فاس

GMT 22:28 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

ولي عهد بريطانيا يقدم خطة لإنقاذ كوكب الأرض

GMT 05:06 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

"Hublot" الخزفية تتصدر عالم الساعات بلونها المثير

GMT 09:11 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

فتاة منتقبة بطلة فيلم "ما تعلاش عن الحاجب"

GMT 07:11 2018 السبت ,25 آب / أغسطس

فولكس" بولو جي تي آي" تتفوق على "Mk1 Golf GTI"

GMT 16:49 2018 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

مكرم محمد أحمد ضيف "الجمعة في مصر" على "MBC مصر"

GMT 16:34 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

مهاجم زامبي على طاولة فريق الدفاع الحسني الجديدي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib