إلى أين تسير المملكة

إلى أين تسير المملكة؟

المغرب اليوم -

إلى أين تسير المملكة

بقلم : نور الدين مفتاح

كالعادة، عندما تحدث الملك محمد السادس عن ضرورة تبني نموذج تنموي جديد، خرج الوزراء والخبراء ورؤساء المراكز ومنظمو الندوات ومحللو التلفزيونات ليهللوا لهذا الموضوع ويعتبرونه قضية الساعة، ومع أن أهمية الموضوع لا جدال فيها، فإن قيمته الحقيقية لا ترتفع إلا عندما تخرج الكلمة أو المفهوم في خطاب رئيس الدولة، وقد وقع نفس الشيء مرّات عديدة، منها حكاية الرأس مال غير المادي الأثيرة.

وفي نظر العبد الضعيف لله، فإن القضية في مغرب هذه الأيام العصيبة ليست في فشل النموذج التنموي، ولكن في متاهة النموذج السياسي الذي لا يعرف له الآن "لا رأس ولا رجلين"، ولا يعرف المغاربة الذين مازال عندهم من الوقت ما يخسرونه على متابعة بعض الخزعبلات إلا نتيجته الانكسارية وحالته التي تصلح أن تسمى بالاكتئاب السياسي.

وعطفا على ما يفعله تقريبا الجميع، نرجع إلى خطاب جلالة الملك الذي قال في الإدارة والطبقة السياسية قبل أشهر قليلة ما لم يقله مالك في الخمر، بل إنه كرئيس للبلاد عبر عن امتعاضه ممن يطبقون سياساته، وأكد أنه إذا كان رأيه هو هكذا فما بالنا بالشعب؟ وهذا صحيح، وله أسباب ومسببات وجذور وحيثيات يطول شرحها، ولكن النساء والرجال لا يخلقون منحرفين، بل هي البيئة والنظام، وأعتقد أننا في المملكة المغربية عشنا تاريخا حافلا، ماضيه شامخ، وتعثراته بصمت شخصيته، ووصلنا إلى ما بعد الاستقلال الذي اختلفنا حول تقييم عقوده، إلا أن الصراع الدموي المرير الذي أنتج سنوات الرصاص أنتج معها نظاما سياسيا مركزيا حديديا لم يتغير حتى وإن غابت السنوات السوداء، وتم طي جزء كبير من هذه الصفحة بعد قراءتها في هيئة الإنصاف والمصالحة.

النظام السياسي المركزي الذي هندسه الراحل الحسن الثاني كان يجمع بين المتناقضات، بين العصرنة والتقليد، وبين الديموقراطية والاستبداد، وهو ما كان يعرف بالديموقراطية الحسنية، وبين المواطن والرعية وبين أشياء كثيرة لم تتغير، بل كانت هناك نية أكيدة في تعميقها بعدما ظهر منافس جديد عوّض يسار السبعينيات، وهو ما سموه بالخطر الإسلامي، وتم تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة الذي كانت له قراءة خاصة لتاريخنا، تقول عموما إن النظام، كما هو، هو الأمثل بالنسبة للمملكة مع بعض المجهود الذي يجب أن تبذله القاعدة وأحزابها لتكون في مستوى القمة، ومن حسن الحظ أن هذا المشروع اصطدم بصخرة 20 فبراير وانتهى حينها لتكون للقدر كلمته العليا ويصبح من كان يعتبر خطراً قائدا للحكومة!!

النموذج السياسي المغربي تغيّر كجواب على مطالب شعبية كانت جزءا من زلزال الربيع العربي، لقد تخلى ملك البلاد دستوريا عن القداسة، وتحول الوزير الأول إلى رئيس للحكومة بصلاحيات أوسع، والقضاء أصبح سلطة قائمة الذات، والكثير من الهندسة المؤسساتية تزحزحت على الرغم من أن الملك ظل هو محور البنيان، وحتى وإن وردت الملكية البرلمانية لفظا في الدستور فإنها ظلت مطلبا كمضمون.

إذن، إذا كان النموذج السياسي قد تغير، فلماذا أزعم أن هناك متاهة نموذج سياسي وليس فشلا فقط للنموذج التنموي؟ الجواب هو أن هذا التغيير الدستوري لسنة 2011 لم يأت بشكل طبيعي ولكن كرد فعل على فعل، وبالتالي كان تقدما معتبرا في ظروف استثنائية، والمشكل الذي جرى بعد ذلك أنه لما تبين أن مآلات الربيع العربي أضحت في الغالب خريفا، وأن الثورات آلت إلى القوى القديمة في البلدان التي حافظت على الاستقرار وآلت إلى فوضى ودمار في سوريا واليمن وليبيا، انفجر نوع من الندم المحسوس على التنازلات التي قدمت دستوريا في المغرب، وتبين لهم أن ما كان أفضل مما هو كائن، ووقعت ليس عملية فرملة فقط، ولكن انحباس لمسلسل ومؤسسات وطريق لم يعد حتى أقرب الفاعلين لمطبخ صناعة المصير في المملكة يعرفون إلى أين ستؤدي بنا، فهناك دستور جديد مكتوب، ودستور قديم فعلي، هناك حكومة ليست هي الحكومة التي يجب أن تنبثق من روح هذا الدستور، هناك بلوكاج عام لا  أحد قادر على حلحلته، بحيث إن تجاوز البلوكاج مع محاولة تشكيل حكومة عبد الإله ابن كيران الثالثة لم يكن إلا شكليا، أما جوهر الأمور في البلاد فظل متوقفا، ومن الآثار العميقة لهذه الفرملة في الإصلاح السياسي -الذي يدخل في حسبان أصحابه أن الطبقة السياسية الحالية لا تستحقه، فقدان الثقة وإهمال الأهم والجنوح إلى تصريف الأمور والانتظارية والغموض غير المنتج، واستعصاء القضايا على التحليل والتفكيك، وتنمية اليأس وتحجيم الأمل، والاعتماد أكثر على الحلول الأمنية، وتعثر المشاريع التنموية وإصابة المؤسسات بالعياء، وغير هذا الذي استطعت -والحمد لله  الذي لا يحمد على مكروه سواه- أن أجد له بعض الكلمات لتوصيفه، أما الإحساس به فهو يملأ الناس جميعا ومن مختلف الآفاق، والمصيبة أن لا أحد يعرف إلى أين نسير؟

وكان أيضا من النتائج الطبيعية لكل هذه الوضعية غير الطبيعية أن يتعاظم السخط الشعبي وتتسارع وتيرة موت الوسطاء، وأن يأخذ الناس زمام غضبهم بأيديهم، مستغلين سلطة جديدة أصبحت متاحة لهم للتأثير في موازين القوى من خلال ثورة تكنولوجيا الاتصال، وهكذا بدأ مسلسل من الحراكات إلى المحاكمات إلى المقاطعة، فإلى أين نسير مرّة أخرى؟

مع كل الأمل الذي يعتبر وقود الحياة، فإنني جد متشائم من هذا الوضع الذي يزداد فيه اكتئاب المكتئب وضمور الصغير وتصغير الكبير. لا يمكن أبدا في جو عام مكهرب سياسيا أن ننتج نموذجا جديدا للتنمية، هذا إذا كانت هناك إرادة لذلك، ولا يمكن أيضا أن ننتج نساء ورجالا جددا يحظون بالمصداقية ويستطيعون إيقاظ شعلة التعبئة. هذا الجو لم ولن يصلح إلا لإحراق أوراق من تم الاعتقاد أنهم سيفوزون بانتخابات 2021 أو سيملأون الفراغ السياسي القاتل.

إلى أين نسير؟ الله يحفظ وصافي!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إلى أين تسير المملكة إلى أين تسير المملكة



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib