ربيع المقاطعة وخريف التخوين

ربيع المقاطعة وخريف التخوين

المغرب اليوم -

ربيع المقاطعة وخريف التخوين

بقلم - نور الدين مفتاح

عندما تفجرت ثورات الربيع العربي، كان الوعاء الأساسي هو الشبكة العنكبوتية وكان الناظم الرئيسي هو مواقع التواصل الاجتماعي، وكان الدافع القوي هو العجز في الحرية والكرامة، وكانت القوة التي أسقطت أنظمة عتيدة هي قوة الشباب والشعب. ورغم كل هذه البديهيات، سارت التحليلات وربما القناعات بأن أم هذه "الثورات" ما هي إلا مؤامرة أمريكية بتواطؤ مع إسلاميي العرب. وكانت هذه إهانة صارخة لملايين المواطنين الذين آمنوا بالتغيير وهبّوا من أجله، ورغم أن مآل أغلب هذه الثورات كان هو فوضى وخراب لدول مازالت تعيش ويلات الدمار والتقتيل والتهجير، إلا أن التاريخ لن يلتفت إلى تشفي دول الاستبداد من مآل هذه المحاولات الشعبية للانعتاق ولا إلى نظرية المؤامرة، ولكنه لن يسجل إلا المحاولة بمداد من ذهب، ويسجل أيضا حالات النجاح بفخر في تونس مثلا وليبيا جزئيا، فألم الهدم في أفق البناء أهون بكثير من قذافي كان يضع سرير النوم في الطابق السفلي للمدارس ليفتض بكارة التلميذات على إيقاع الكوكايين، وأهون من تحكم مصففة شعر وعائلتها "الطرابلسي" في مصير شعب الياسمين.

ونظرية المؤامرة إذا كانت سلاحا معروفا لكسر الخصوم والأعداء مهما كانت طبيعة حركاتهم وصدقيتها وشرعيتها، فإنه يتقوى أكثر في بيئة ثقافية ملوثة ونظام قيمي تم تحطيمه مع سبق الإصرار والترصد لمدة عقود، ولأسباب سياسية محضة. والمشكل أن النظام في المغرب استعمل نظرية المؤامرة ضد خصومه السياسيين وسجن ونفى واختطف في ما سمي بسنوات الرصاص، كما أن المعارضين الثوريين ومن في حكمهم تأثروا بطول مدة السرية ليبلوروا كتمانا تحول تدريجيا إلى خلق نوع من نظرية المؤامرة المضادة، فكل معارض وسط  المعارضة يكاد يكون مدفوعاً من النظام، والتهمة القاتلة كانت طيلة خمسة عقود هي: المخبر أو المندس.

ونلاحظ أن هذه الثقافة عموما استفحلت وأصبح الجميع مشبوها إلى أن يثبت العكس، وأصبحت حسن النية بمثابة غباء، وهذا لم يكن إلا في صالح المخوضين والسابحين في المياه العكرة والمستفيدين من الفساد أو صانعيه.

وهذه المقدمة الطويلة كانت ضرورية في رأيي المتواضع للتعليق على موضوع الدعوة الفيسبوكية لمقاطعة ثلاث علامات لمواد استهلاكية هي المحروقات والماء المعدني والحليب. ولولا الانتشار الذي لقيته هذه الدعوة للمقاطعة، لما كانت القضية اليوم قضيّة رأي عام، إلا أنه بدل أن ينصب النقاش السليم في بيئة سليمة على أسئلة من مثل دور وسائل التواصل الجديدة في التعبئة الشعبية أو حقيقة ضمور الوسائط المجتمعية التقليدية من أحزاب ونقابات، أو واقع الأسعار في المغرب أو أثر غياب سلطة للمنافسة على انتشار الجشع والاحتكار، أو دور المنتوج الوطني في تنمية الاقتصاد، أو دراسة كلفة الإنتاج وهوامش ربح كبريات الشركات، أو أخطار الضغط الاقتصادي على الاستقرار في المغرب… بدل كل هذا انصب جل النقاش حول من وراء هذه الحملة "المغرضة"؟ ولماذا ثلاث شركات بالضبط؟ ولماذا السيد عزيز أخنوش؟ وما علاقة هذا بإقالة  السيد عبد الإله ابن كيران وبالتهييء لانتخابات 2021؟ وبدا حتى في إعلامنا شيء عجب انطلاقا من الإعلام العمومي الذي يفترض أن يتناول ما يهم الرأي العام، بما أن الشعب هو الذي يموِّله، بحيث لم يقل كلمة واحدة عن الموضوع، فما بالك تخصيص برنامج للتحاور حول قضية جوهرية حساسة، ووصولا إلى مئات الأقلام التي تراشقت الاتهامات في إطار نظرية المؤامرة، وفي الوقت الذي يكتب في سجلات المغاربة فصل من فصول التحرك المدني  السلمي الذي ينم عن حيوية مجتمعية محمودة، كان البعض يسكب عليه سوائل التمييع والمزايدة والتحقير.

إن الحق في التعبير مقدس لا حجر عليه من أي أحد، والحق في التعبير الجماعي المنظم ليس جريمة، بل هو ارتقاء في سلم المسؤولية، والشعب أو جزء منه حر في اختيار ما يشاء في إطار القانون، وإذا كان مالك السلطة السياسية أو الاقتصادية متمتعا أصلا بسلطة على المواطنين، فعلى الأقل يجب أن يترك للآخرين الحق في التذمر، والحق في الغضب، والحق في الاحتجاج، والحق في المقاطعة، والحق في التنفيس، وهذه الحقوق ليست مشروطة بالصواب ولا بالجائز أو المحظور، لأن العفوية في ردود الفعل على أضرار عامة مفترضة تستوجب قرينة البراءة وشرعية المبادرة، خصوصا إذا كان واقع الحال صارخا، وهو فوارق اجتماعية مهولة وغلاء فاحش واحتكار وضغط على الشعب يكاد يولد الانفجار. ولهذا قد يختار المحتجون صوابا أو خطأ علامة هي رمزية في الاحتجاج، ولهم الحق في ذلك دون تخوين، لأن حسن النية هو الأصل وليس سوؤها.

 

فهل في إطار حرية التعبير أيضا يمكن لوزير المالية أن يصف المواطنين المقاطعين للمنتوجات بالمداويخ؟ وهل يستقيم أن ينعت مدير شركة الحليب الناس بالخونة للوطن لمجرد أنهم دعوا إلى مقاطعة منتوجه؟ أعتقد أن الحق في رد الفعل يجب أن يراعي وزن الكلمات والمسؤولية، فالناس الذين قاطعوا ليسوا مسؤولين عن الأوضاع المزرية في البلاد والوزير مسؤول، وبالتالي ليس من حقه أن يكون مسؤولا عن مآسي شعبية وفي نفس الوقت يسب الضحايا، ومسؤول الشركة الفرنسية للحليب يزاول نشاطا اقتصاديا هدفه الربح، وإذا احتج الناس على منتوجه أو غلائه فعليه إما أن يقنعهم بالعكس أو يعيد النظر في أثمنته، أما ربط شركته بالوطن، فهذا فيه تجنٍّ على الوطن الذي هو أكبر بكثير من الحليب وشركته، وفيه تجنٍّ على جزء من المواطنين الذين قذفهم بالخيانة، وهو غير مؤهل لذلك، لسبب بسيط هو أن شركة  الحليب غير منصوص عليها في الدستور، وللتشبيه المفيد، فإن ما قاله مدير الحليب هو كما لو قالت صاحب شركة الماء إن مقاطعة مائها هي خيانة لله سبحانه وتعالى الذي قال: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"!

هذه بلاد ليبرالية فيها مستثمرون يوفرون عشرات الآلاف من مناصب الشغل، والحق في الثراء مشروع والحق في النجاح ثابت، ولكن هذا لا يمنع من الإنصات لملايين الفقراء عندما يتأوهون أو يئنون، فنعم لمكافأة مجهوداتكم الاستثمارية بالملايير من الأرباح سنويا، ولكن لابد أن تراعوا وترعووا، فهامش ربح أقل لن يقتلكم إذا خفف على الناس في معيشتهم، أما أن يكون عندنا في المغرب بضعة أغنياء يدخلون نادي العشرة الأكثر ثراء في إفريقيا والعشرين الأكثر ثراء في العالم، في الوقت الذي يوجد فيه ملايين المغاربة تحت عتبة الفقر، فهذا على الأقل كان يجب أن يجعل اللبيب ينصت إلى نبض الشعب بدل أن يسارع إلى تخوينه، فالبلاد لا تصنع لا آلات ولا صواريخ ولا تكنولوجيا متطورة، فما هي إلا مجالات خدماتية استهلاكية تدر ذهبا وتترك للمواطنين التراب. فماذا لو كان السيناريو مختلفا وقام أرباب المحروقات بإعادة النظر في أثمنتهم وسار على نفس المنوال كل ربابنة الاقتصاد الوطني؟ ألن يكونوا آنئذ قد خدموا الوطن بتجنب مخاطر الانفجار الاجتماعي؟ قلتها من قبل وسأعيدها، صحيح أن المغاربة فقراء ولكنهم ليسوا أغبياء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ربيع المقاطعة وخريف التخوين ربيع المقاطعة وخريف التخوين



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib