معالي وزير «العزل»

معالي وزير «العزل»

المغرب اليوم -

معالي وزير «العزل»

بقلم رشيد نيني

ما لا يعرفه وزير «العزل» وما تبقى من الحريات، المصطفى الرميد، هو أن معاليه قد دخل التاريخ من بابه الواسع، وأنه سيصبح موضوع مناقشات ودراسات جامعية معمقة في القانون، وربما في علم النفس أيضا، ليس بفضل مساهمته في محاولة إصلاح منظومة الغذاء بوزارة العدل، عفوا إصلاح منظومة العدل كما يعتقد، بل بسبب تتبعه المحموم لكل ما يكتب حول شخصه على صفحات الفيسبوك، وسعيه الحثيث إلى متابعة القاضي الهيني، وحرصه على محاكمته وعزله قبل استكمال الهياكل التنظيمية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي جاء به دستور 2011 لمجرد الرغبة في حرمان «خصمه» من الضمانات التي جاء بها هذا الدستور، بناء على شكاية سرية تقدم بها رؤساء فرق برلمانية.
ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن عزل القاضي الهيني، أن نهنئ ممثلي الشعب رؤساء الفرق البرلمانية المشتكين، ونتمنى أن يكونوا راضين عن الرميد فرحين بهذا الإنجاز غير المسبوق، الذي بموجبه ساهموا في قطع خبز قاض، وهو الإنجاز الذي سيحسب لهم في صحيفة «حسناتهم» ويسجل لهم تاريخيا، كما سجل التاريخ قضية عبد الحميد الروندة.
فكل رجال القانون، بمن فيهم الرميد، يعرفون قضية عبد الحميد الروندة ضد وزارة العدل، وهي القضية التي أسالت العديد من المداد حينها في الداخل والخارج، وقسمت، إلى جانب قضية مزرعة عبد العزيز، الرأي العام القانوني إلى فريقين، حول جواز الطعن في القرارات الملكية ذات الصيغة الفردية، حين عزل الملك محمد الخامس رحمه الله قاضيا بظهير ملكي، فطعن هذا الأخير في القرار بالشطط في استعمال السلطة، معيبا على القرار عدم تمتيع القاضي بحق الدفاع عن نفسه قبل عزله، فأصدر المجلس الأعلى قراره الشهير بتاريخ 18 يونيو 1960 برئاسة القاضي الحمياني الذي أصبح وزيرا للداخلية في ما بعد، قضى من خلاله برفض الطعن المرفوع من طرف القاضي عبد الحميد الروندة، معللا حكمه بأن القرارات الملكية لا تقبل الطعن.
ومنذ ذلك التاريخ استقر الاجتهاد القضائي على رفض كل طعن في القرارات الملكية، إلى أن جاء دستور 2011 وسمح بالطعن في المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية، الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بسبب الشطط في استعمال السلطة، أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة، كما نص في الفصل 118 على أن «كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يُمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة».
وبذلك يكون الملك محمد السادس قد وضع حدا للجدل الفقهي الذي عمر طويلا حول جواز الطعن في قراراته ذات الصبغة الفردية، وأغلق القوس حول هذا الموضوع، منتصرا في ذلك لجانب العدل والحق.
غير أن وزير «العزل» وما تبقى من الحريات كان له رأي آخر، عندما أصر على متابعة قضاة ومحاكمتهم تأديبيا في هذه الفترة الانتقالية، لكي يحرمهم من إمكانية الطعن في القرارات التي قد تصدر في حقهم، في الوقت الذي قال فيه سلفه المرحوم محمد الطيب الناصري سنة 2011 إنه لن يدرج ملفات التأديب في مداولات المجلس رغبة منه في عدم تضييع فرصة الطعن التي أتاحها الدستور الجديد للقاضي موضوع التأديب في قرارته، وذلك في إطار التنزيل الحقيقي للدستور.
وهو ما يدعونا إلى التساؤل حول سبب إصرار الوزير الحالي على التنكر لتعهد سلفه، وهو الذي بكاه بحرقة وحرص على أن يصاحب جثمانه ويدفنه بنفسه، ربما لأن الرميد يشعر اليوم جيدا بالعجز والتعثر والارتباك الذي يعرفه تنزيل الدستور على عهد الحكومة الحالية، ويعلم أنه إذا عولنا على استكمال المنظومة التشريعية المواكبة للدستور في ظل حكومة عفا الله عما سلف، فإننا لن نبرح مكاننا، لذلك نجده يسابق الزمن لفرض تلك النصوص الكارثية التي فضحها ثلة من القضاة الشباب، محاولا في نفس الوقت تكميم أفواه كل من يحاول الكشف عن ثغراتها.
غير أن الوزير لا يعي أن ما حركه من متابعات في حق القضاة وصلت إلى حد العزل، وما زرعه من ألغام قانونية في طريقهم، قد فتح به الباب على مصراعيه لنشوب حرب خفية وطاحنة بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية لن يطول الوقت حتى تظهر عواقبها على النمو الديمقراطي للبلد بكامله.
وهو حين سمح للبرلمانيين الموالين لحكومته بأن يتقدموا بشكايات وأن يقيدوا حرية القضاة، ويتظلموا من تصريحات تهم الشأن العام ولا تمسهم كأشخاص، معبرين بذلك عن ضيق الأفق الديمقراطي لديهم، فإنهم باعتبارهم أكبر زبناء القضاء وأكثرهم ترددا على ردهات المحاكم، قد يجدون أنفسهم أول من يكتوي بنيرانه، لذلك فلن نستغرب إذا نحن صادفنا عما قريب أحكاما قضائية مطبوعة بطابع القسوة تجاه السياسيين عموما والانتقام منهم والتشدد تجاه كل تعبير سياسي، عبر السعي إلى التطبيق الحرفي للنصوص القانونية كما صاغها المشرع على منوال «هذه بضاعتكم ردت إليكم».
كما لن نستغرب إن نحن صادفنا سيلا من الأحكام التي تتشدد في الشكليات لتتهرب من البت في جوهر الحق، خوفا من المساءلة، ونفورا من أي اجتهاد قد يجر على صاحبه الويلات.
وهذه البدعة التي استحدثها الرميد في تأجيج صراع السلط في ما بينها، ستتحول إلى عرف غير محمود من حق وزراء العدل اللاحقين استعماله مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية لتصفية حساباتهم مع خصومهم، وسيفرضون عليهم وجهة نظرهم وقراءتهم الخاصة للفصول القانونية، وسيستشهدون لتبرير موقفهم بما درج عليه الرميد قبلهم.
والخلاصة هي أن ما يقوم به الرميد ليس تخليقا بقدر ما هو محاولة إذلال الجسم القضائي لصالح أغلبيته الحكومية، ومساس بهيبة القضاء التي هي من هيبة الدولة، لذلك تجده ينسب كل ما هو جيد لنفسه ويعتبره من إنجازاته، ويتنكر لكل ما يصدر عن القضاء من ممارسات تثير الرأي العام، مثل لجوئه مؤخرا إلى إصدار تعليمات للنيابة العامة من أجل أن تطلب من القضاء الإفراج المؤقت عن الشاب المكراوي فاضح فساد الزفت.
فرغم أن الخطوة قانونية في ظاهرها إلا أنها غير أخلاقية في جوهرها، وماسة بهيبة القضاء واستقلاليته أمام المواطنين، فما قام به الوزير ورئيسه في الحكومة من تعبير عن رفض لقرار قضائي، لا يمكن وصفه إلا بالتأثير على سلطة القضاء في قضية رائجة أمامه، واستغلال للنفوذ لأغراض إعلامية وانتخابية، لأن وزير «العزل» وما تبقى من الحريات بإصداره لتعليمات كتابية لوكيل الملك الذي سبق له أن قرر الاعتقال، فهو يتخلى عنه عمليا ويحرجه أخلاقيا أمام الرأي العام في انتظار مرور العاصفة، دون أن تكون له الجرأة لمحاسبته فعلا عن قراره باعتقال المتهم، وهو حين يعلن للرأي العام أنه سيطالب بالسراح، فماذا عساه ينتظر من القاضي الذي سبق له أن رفض السراح بالأمس، سوى أن ينصاع اليوم لمطالب معاليه الآمرة، وأن يمنح السراح المؤقت للمتهم صاغرا، بعيدا عن أكذوبة الاستقلالية التي لا يصدقها حتى الرميد.
وما لا يعلمه الكثيرون، بمن فيهم الرميد، هو أن محامي عبد الحميد الروندة في قضيته الشهيرة لسنة 1960 كان هو النقيب عبد القادر بنجلون رحمه الله، والذي لم تحل نيابته ضد قرار الملك محمد الخامس دون تعيينه من طرف الملك الحسن الثاني وزيرا في الحكومة المغربية، كما لم يمنعه استوزاره من أن يقدم استقالته من الحكومة احتجاجا على إنشاء محكمة العدل الخاصة، لما كانت تتضمنه حينها من خرق لشروط المحاكمة العادلة.
لذلك فإن قضية عبد الحميد الروندة كانت درسا قانونيا فتح قوسا سنة 1960، وكان من المفروض أن يغلق القوس بصدور دستور 2011، لولا أن الرميد أبى إلا أن يترك هذا القوس مفتوحا بقضية محمد الهيني سنة 2016.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

معالي وزير «العزل» معالي وزير «العزل»



GMT 05:05 2017 الثلاثاء ,06 حزيران / يونيو

حتى أنت يا مصيطيفة

GMT 05:06 2017 السبت ,03 حزيران / يونيو

الدرهم العائم

GMT 06:18 2017 الخميس ,01 حزيران / يونيو

يتيم في العيد

GMT 06:30 2017 الثلاثاء ,30 أيار / مايو

عادات سيئة

GMT 05:40 2017 السبت ,27 أيار / مايو

ولاد لفشوش

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib