ومات جميل العدسي…

ومات جميل العدسي….

المغرب اليوم -

ومات جميل العدسي…

بقلم - أسامة الرنتيسي

من خنادق بيروت إلى زوايا عمّان..

ابن يافا الذي عشق أمينة.. وقاع المدينة

أسامة الرنتيسي-

أوجعني موتك يا جميل…

وجميل العدسي، ليس شخصية سياسية معروفة، لم يترشح لمجلس النواب أو مجلس المحافظات، إنه ابن الزمن الجميل عندما كانت بيروت تصنع ما يشبه المعجزات، وتصنّف الرجال، فهو ابن حركة فتح، وأحد عناصر أمن الرئاسة والحماية للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في لبنان.

تعرفت عليه بعد الخروج من بيروت عام 1982، حيث عاد مصاباً فاقداً الحركة في ساقه اليمنى، وصل عمان عن طريق طرطوس، حيث تقيم والدته وأهله في رأس العين، ومكث 38 يوماً نزيلاً في فندق أبو رسول قبل هدمه.

أصبح جميل العدسي أو أبو حيدر أو الحج جميل او ابو محمد (ألقاب لشخص واحد) عنواناً بارزاً في قاع المدينة، وأخذ زاوية قرب سينما الحمراء يبيع فيها الكاسيتات للأغاني الوطنية والفلكلور الفلسطيني، فهو أول من أسمع رواد وسط البلد أغاني فرقة العاشقين (إشهد يا عالم علينا وعلى بيروت إشهد بالحرب الشعبية)، وأغاني الفرقة المركزية للثورة الفلسطينية (طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع)، وأغاني أبو عرب (هدي يا بحر هدي طولنا في غيبتنا).

تحول أبو حيدر إلى صديق لطلبة الجامعات الذين تستهويهم الأغاني الوطنية، وكان يؤمّن لهم أي كاسيت يطلبونه، حتى لو كان ممنوعاً.

كنت تجد في بسطته كل الأغاني الوطنية لكل الفنانين العرب الذين غنّوا للقضية الفلسطينية ولقضايا الإنسان والحرية.

أعرف “جميل” منذ 35 عاماً، لم أتعرف في حياتي على إنسان شهم وكريم وصادق وقمة في الوفاء مثل ابن يافا التي غادرها طفلاً مهاجراً إلى غزة، ومنها لجأ إلى الأردن ليفقد حقه في الحصول على رقم وطني باعتباره من أبناء القطاع، فأمضى عمره يحمل الوثيقة المصرية وهو لم يزر مصر نهائياً.

قمة وفاء الحج جميل تمثلت في علاقته مع شريكة حياته الراحلة أمينة الناطور، التي تزوّجها بعد علاقة كفاحية مع ابن عمها قائد قوات الـ 17 في الثورة الفلسطينية محمود الناطور أبو الطيب.

كانت أمينة تشبه “جميل” في صفات الكرم والوفاء والصدق، فعاشا العمر معاً من دون أن يمنحهما الله أطفالاً، ولم يفكر يوماً بالزوجة الثانية التي تنجب، وبقيا عاشقين حتى أخذ الله وديعته، وتوفيت أمينة في 6 حزيران 2013.

منذ يوم وفاتها لم تغب أمينة عن يوميات جميل، وهو الرجل الذي يملك سحراً غريباً على النساء، فهو شديد الوسامة، حتى إن صديقنا المشترك المحامي علوان القيسي أطلق عليه لقباً جديداً (هارون الرشيد) في إشارة لعلاقاته الواسعة والصادقة مع عدد من الصبايا والسيدات، اللواتي كن يتعاملن معه من دون أي مخاوف لأنهن شعرن بصدقه وحسن نواياه، وكان علوان يغار منه.

حرص جميل على أن يزور أمينة في سكنها الجديد في سحاب، وفي كل مناسباتهما المشتركة وبخاصة عيد ميلادها كان يذهب محملاً بقطع الكيك لتناولها معاً. لم يقطع هذه العادة نهائياً إلى أن أقعده المرض.

في 9 مارس (آذار) انهار الوضع الصحي للحج جميل، ودخل المركز العربي يومين وغادره إلى البيت ليعود بعد أيام إلى المستشفى التخصصي، وبعد عملية تنظير اكتشف أن السرطان غزا جسده الضعيف واستوطن في الاثنا عشرية وامتد إلى الكبد، ووصل به إلى المرحلة الرابعة.

لم أعرف في حياتي رجلاً جباراً أمام المرض والألم سوى والدي رحمه الله، والحج جميل.. لم أسمع منه طيلة صداقتنا الطويلة شكوى من مرض أو ألم، لكني شاهدت إنساناً هشاً مستقبلاً النهاية بصدر مؤمن ورحب في أيامه الأخيرة، ولسان حاله يقول:

إنَّ في بُرديَّ جسماً ناحلاً .. لو توكّأْتِ عليهِ لانهدمْ

كان يتحدث عن الموت بكل سهولة، كأنه يريد أن يرحل مسرعاً إلى حبيبته أمينة حيث تنتظره بفارغ الصبر مثلما كان يردد دائماً.

لم أبكِ يا صديقي بالحرقة التي بكيت فيها عليك منذ آخر فاجعة تعرضت لها في 27 آب 2016، لأنك صديقي المقرب، وأخي الذي لم تلده أمي، ورفيق سنوات العمر الجميل.

جميل العدسي، على مثلك تحترق القلوب، وتجف الأرواح، وتسفح الدموع.

منذ ثلاثة أيام وانا ومجموعة من الاصدقاء نحاول عبثا تأمين سرير لجسد جميل المنهك لدخول مدينة الحسين الطبية بعد أن تحصلنا بجهود كبيرة على اعفاء طبي من الديوان الملكي، لنخفف عنه كلفة العلاج في المستشفى التخصصي، وبقى إبن اخته رامي الطاهات مرابطا في المدينة الطبية حتى يضمن الموافقة  لكن لم نفلح في ذلك، وقبلنا اليوم أن يتم نقله إلى مستشفى البشير لكن حجة الازدحام منعت تحقيق ذلك.

جميل بحسه المرهف شعر بمدى الحرج الذي يسكننا جراء الفشل في تأمين سرير له، فأختصر علينا الوقت وتعب الضمير وغادرنا من دون استئذان.

اقتربت من جسده قبل أن يفقد حرارته نهائيا، ودعوته أن لا يسامحنا، ولا يسامح قساوة اوطاننا، التي لا يتسع فيها سرير الشفاء للارواح المحترمة.

عليك الرحمة، وعلينا أيضاً، وما بدلت تبديلاً..

الدايم الله..

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ومات جميل العدسي… ومات جميل العدسي…



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 03:28 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

يستقبل الرجاء الكوديم والوداد يواجه الفتح

GMT 03:05 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

تواركة يعمق جراح شباب المحمدية

GMT 08:39 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة البتكوين تتخطى 80 ألف دولار للمرة الأولى في تاريخها

GMT 02:38 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تسعى لشراء قمح في ممارسة دولية

GMT 19:22 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 00:46 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

دبي تعلن عن أكبر صفقة عقارية هذا العام بأكثر من 137 مليون دولار

GMT 15:58 2019 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

المغرب الفاسي يسدد ديون الضمان الاجتماعي

GMT 06:55 2018 الأربعاء ,05 أيلول / سبتمبر

طريقة عمل بروتين لشعرك من "المواد الطبيعة"

GMT 01:31 2023 الثلاثاء ,17 كانون الثاني / يناير

آرون رامسديل يتعرض للانتقادات في آرسنال

GMT 20:41 2020 الأحد ,26 تموز / يوليو

غرف نوم باللون التركواز

GMT 03:47 2019 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

ثعلب وسنجاب بطلا أفضل صورة للحياة البرية لعام 2019

GMT 11:48 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

شخصيات في حياة أحمد زكي والعندليب

GMT 00:01 2013 الأحد ,09 حزيران / يونيو

فقمة القيثارة مخلوق غريب لايتوقف عن الأبتسام

GMT 12:14 2017 الثلاثاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

السعادة المؤجلة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib