هل هي بداية تفكك هيمنة الغرب الفكرية والثقافية والقيمية

هل هي بداية تفكك هيمنة الغرب الفكرية والثقافية والقيمية؟

المغرب اليوم -

هل هي بداية تفكك هيمنة الغرب الفكرية والثقافية والقيمية

لحسن حداد
بقلم - لحسن حداد

شدَّت اهتمامي لافتة صغيرة تم رفعها ضمن إحدى المظاهرات المتضامِنة مع غزة ضد آلة التقتيل الإسرائيلية المدعومة عسكرياً ودبلوماسياً وإعلامياً من طرف الغرب. تقول اللافتة: «هل تعرفون من مات في غزة أيضاً؟ إنها أسطورة الإنسانية والديمقراطية الغربية». ابتلع الزعماء ورواد الرأي والمؤثرون الغربيون ألسنتهم واختاروا السكوت عن جريمة إبادة يتم تصويرها من طرف الضحايا أنفسهم (للمرة الأولى في التاريخ)، بل ودعَموا وساندوا وصفقوا لِمَنْ يقترف هذه الجريمة في واضحة النهار، أي الحكومة الإسرائيلية وجيشها المؤيَّدَان بدورهما من طرف رأي عام إسرائيلي مصمم على الانتقام والقتل.

المفارقة أن رواد السياسة والرأي هؤلاء كانوا إلى حدود 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يتغنون بقيم الحرية وحقوق الإنسان وكونيتها ومركزيتها في العلاقات الدولية. بعد هذا التاريخ، صارت القيم، بقدرة قادر، غير كونية، والقيم صالحة للبعض وطالحة للآخرين، والحق يُعْطى للبعض على حساب البعض الآخر.

سقطت الأقنعة ودخلنا عصراً أوريلياً، الناس فيه سواسية ولكن بعضهم «أكثر سواسية» من البعض الآخر. مثلاً لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، ولا حق للفلسطينيين الذين يتعرضون لتطهير عرقي ممنهج منذ عقود في ذلك. هكذا صار هناك «حقٌّ حق» (إسرائيل) و«حقٌّ باطل» (فلسطين)، لأن أولوية الحق الإسرائيلي تعلو على كل الحقوق الأخرى. مع هذا الحق الاستثنائي لإسرائيل، صارت كونية الحقوق في خبرِ كان، وصارت آلية خطابية تُستعمَل لتحقيق مآرب سياسية وجيواستراتيجية واقتصادية، أكثر منها اهتماماً حقيقياً وصادقاً بوجود مُشترَك إنساني يضمن السلم والأمن والازدهار والكرامة لكل الشعوب.

بُنِي الخطاب الإنسي الغربي على أساس مقولة بأن وجودنا نحن البشر له قيمة في حد ذاته؛ وعلى قيم مثل «حرية التفكير، أي وضع أسئلة، والفضول، وتحصيل المعرفة، والاكتشاف» والسعي للحفاظ على كل ما يمت للإنسان بصلة. (سارة بيكويل، كتاب «الإنسية الممكنة»، 2023).

كونية حقوق الإنسان، بما فيها الحقوق السياسية والديمقراطية، كانت دائماً تشوبها شوائب؛ خصوصاً أنها تنبع من نوع من التقوقع الإثني الغربي وتنهل من التجربة والثقافة السياسية الغربية من دون غيرها، وتجعل الإنسان «أرقى» من الكائنات الأخرى، والطبيعة في حد ذاتها، (وهذا لا يقبله كثير من الثقافات غير الغربية)؛ ومع ذلك فقد اعتمدتها جل الدول من خلال تبني «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي يقتضي وجوداً مشترَكاً قيمياً، يكون بمثابة سقف تطمح للوصول إليه الشعوب وتقيِّم تجربتها في مجال تكريم «مركزية الإنسان» على أساسه.

تقتضي تِلْكُمُ الكونية كذلك وضع آليات لجعل النزاعات والحروب تتقيد بشروط ومبادئ أساسية مثل «التفريق بين المقاتلين المسلحين والمدنيين»، وعدم استهداف من «لا يشاركون بشكل مباشر في القتال»، و«حظر إلحاق أي ضرر لا داعي له»، وهي مبادئ أساسية لما يسمى القانون الإنساني الدولي.

لقد أجهزت الحرب الإسرائيلية على غزة، بدعم واضح من الغرب، ليس فقط على مبدأ كونية الحقوق، ومبادئ القانون الإنساني الدولي، ولكنها جعلت الغرب، الذي نصَّب نفسه لعقود حامياً للأنسنة والديمقراطية والقانون الإنساني الدولي، أكبر شريك متواطئ في خرق هذه المبادئ. إنها بداية نهاية خطاب الإنسية والكونية والديمقراطية كما عرفناه لعقود خلت.

حتى كتابة هذه السطور وخلال أكثر من خمسة أشهر من القتل والدمار وما سمته المحكمة الدولية الإبادة الإسرائيلية المُحتمَلة للفلسطينيين العُزَّل، تمكنت إسرائيل من خرق كل بند من بنود الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وكذا جميع مبادئ القانون الإنساني الدولي من دون أن يحرِّك الغرب، وزعماؤه، وإعلامه، ورواد رأيه ساكناً.

كانت إسرائيل - الاستثناء مبدأ يُعتمَل به منذ زمان، ولكن الإعلام والغطاء الدبلوماسي الغربي وآليات «الحصبرة» الإسرائيلية (أي الكذب المُنظَّم للدفاع عن صورة إسرائيل) تتمكن من درء «الخطر» وإسكات المنتقدين وتصوير إسرائيل على أنها الضحية خصوصاً حين تعتدي على الفلسطينيين. الآن وقد سقطت الأقنعة واستيقظ الضمير العالمي على كون العدوان على فلسطين مستمراً منذ 75 سنة، وأن إسرائيل تبنت نظام فصل عنصري في الضفة الغربية، وحصاراً شاملاً وخانقاً على غزة، وأن الحرب على غزة هي حرب إبادة وتطهير عرقي، وليست دفاعاً عن النفس، قطع الغرب حبل الود بينهم وبين كونية حقوق الإنسان وأولوية القانون الإنساني الدولي في الحروب، فساندوا إسرائيل حتى حين تيقنوا أنها ظالمة معتدية بوصفها قوة استعمارية محتلة.

هكذا لم يحركوا ساكناً حين قال وزير الدفاع الإسرائيلي إن الفلسطينيين «حيوانات إنسانية»، وحين شبَّههم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأهل «آماليك» في التوراة الذين دعا الرب إلى قتلِهم وأزواجهم وأولادهم وحيواناتهم، أو حين قال الرئيس الإسرائيلي إنه ليس ضمن أهل غزة مدنيون أبرياء... كل هذه الدعوات للإبادة لم ينتفض ضدها الغرب، حتى حين أقرت محكمة العدل الدولية في قرارها ليوم 26 يناير (كانون الثاني) 2023 بوجود «أضرار لا يمكن إصلاحها» وباحتمال حدوث إبادة وضرورة اعتماد «تدابير مؤقتة» فيما يخص حماية المدنيين ووقف استهدافهم ووضع ممرات إنسانية وحماية المباني الصحية والمرافق المدنية الأخرى.

قَتْلُ المدنيين وتجويعهم وتعذيب الأسرى وإعدامهم، وتدمير الجامعات والمستشفيات وترْك الأطفال الرضع يموتون من دون حماية طبية، والترحيل القسري للمدنيين، وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تم «تبريرها» أو بالأحرى تغافلها وتجاهلها عمْداً من طرف الغرب عبر سرديات زائفة مثل الأربعين رضيعاً إسرائيلياً الذين تم اتهام «حماس» بقطع رؤوسهم، وبعد ذلك تم التراجع عن الخبر، بعد فوات الأوان بالطبع؛ أو استعانة «نيويورك تايمز» بجندية سابقة في الجيش الإسرائيلي تحوَّلت إلى صحافية وكانت وراء المقال الخطير «كيف استعملت حماس الاعتداءات الجنسية وسيلة حرب؟» الذي ساهم في تشبث الدوائر الغربية والإعلام الغربي بالدفاع عن إسرائيل حتى بعد تهمة الإبادة.

حرب إسرائيل على سكان غزة العُزَّل وإبادتهم في ضرب صارخ لحقوق الإنسان والقانون الإنساني واتفاقية 1948 حول جرائم الإبادة، كانتا بدعم عسكري وإعلامي ودبلوماسي من الغرب، ما جعل خطاب الإنسية والديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي شعارات يتم رفعها من طرف الغرب حسب الحاجة والمصلحة... فهل هي بداية تفكك هيمنة الغرب الفكرية والثقافية والقيمية؟ هذا وارد جداً خصوصاً مع تنامي وعي دول وشعوب الجنوب بضرورة البحث عن بدائل لمنظومة لا تخدم إلا مصالح الأقوياء وذوي النفوذ ومراكز القوى المتقوقعة على ذاتها في الغرب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل هي بداية تفكك هيمنة الغرب الفكرية والثقافية والقيمية هل هي بداية تفكك هيمنة الغرب الفكرية والثقافية والقيمية



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib