السعودية والسلام في الشرق الأوسط

السعودية والسلام في الشرق الأوسط

المغرب اليوم -

السعودية والسلام في الشرق الأوسط

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

في السياسة، الصراع هو الأصل والسلام استثناء أو هو تطوّرٌ عن الحالة الأصلية لدوافع مختلفة، فالصراع غريزةٌ والسلام وعيٌ ورؤية، وقد ظلت منطقة الشرق الأوسط محلاً للنزاعات والصراعات لقرونٍ من الزمن رواها التاريخ ودونتها مسيرته الطويلة، وقد تكثفت تلك الصراعات في العقود الأخيرة.

في القرن العشرين تكثيفٌ للتاريخ وصراعاته التي طالما تطورت إلى حروبٍ، تكبر وتصغر، تطول وتقصر، فقد بدأ القرن في المنطقة باستعمارٍ تركي غاشمٍ ومرير تحت اسم «الخلافة العثمانية» ولم تتحرر منه شعوب المنطقة التي عرفت ويلاته وجرائمه إلا بعد ضعف الدولة العثمانية وبداية دخول الاستعمار الغربي البريطاني والفرنسي إلى المنطقة في بلاد المغرب العربي وبلاد الشام ومصر وتوسع لغيرها.

جاءت بعد ذلك مرحلة التحرر الوطني وقامت حركات مقاومةٍ للاستعمار في كثيرٍ من دول المنطقة، انتهت بجلاء المستعمرين على مراحل متفاوتة، وبتحدياتٍ متعددةٍ بحسب العديد من المعطيات التي تختلف من بلدٍ لآخر، واكتمل الاستقلال وقامت دولةٌ تركيةٌ ودولةٌ إيرانيةٌ ودولٌ عربيةٌ، ورثت الدولة التركية خلافة العثمانيين فعززت قوميةً تركيةً علمانيةً لا تحفل بأقلياتها وعاشت الدولة الإيرانية صراعاً هوياتياً بين علمانيةٍ مضطربةٍ وطائفيةٍ صاعدةٍ، حتى رست على ما يسمى «الثورة الإسلامية» وانتصرت الطائفية بشكل صارخ.

عربياً، قامت صراعاتٌ حول طبيعة الدولة في كل بلدٍ، فكانت ملكياتٌ وجمهورياتٌ، ومرت موجةٌ قويةٌ من الانقلابات العسكرية التي سميت «ثورات» تماشياً مع الخطاب السائد حينها عالمياً ما بعد الحرب العالمية الثانية بين شرقٍ وغربٍ وشيوعيةٍ ورأسماليةٍ، ورست الدول العربية على ملكياتٍ مستقرةٍ وجمهورياتٍ عسكريةٍ بخطاباتٍ قوميةٍ متصارعةٍ، وكان الصراع مع إسرائيل أحد أكبر الشعارات حينها عربياً وإقليمياً.

صراعات الهويات ونزاعات الدول لا تنتهي بجرة قلمٍ ولا تختفي من التاريخ فجأةً، ومن هنا قام في المنطقة صراعٌ استمرّ لعقودٍ بين ثلاثة مشاريع كبرى: مشروعٌ أصوليٌ لتركيا التي تفتش عن عودةٍ لإرثها الاستعماري العثماني والتخلي عن علمانيتها بخطابٍ لم يصل لنهايته بعد، ومشروعٌ طائفيٌ لإيران الخمينية، وسعى المشروعان لاستهداف الدول العربية التي تمثل المشروع الثالث وهو مشروع الاعتدال العربي، وكانت وسيلة المشروعين للتغلغل في الدول العربية تمرّ من خلال جماعاتٍ وتنظيماتٍ وأحزابٍ وميليشيات، حتى وصل الجميع للحظة ما كان يعرف بالربيع العربي.

اشتركت في ذلك الربيع المشؤوم إرادة المشروعين المعاديين للعرب مع إرادةٍ غربيةٍ لضرب الدول العربية ودعم استحواذ الجماعات الأصولية على السلطة فيها، ولكن هذه الإرادة المشتركة، وإن انتصرت مؤقتاً بنشر «استقرار الفوضى» وإسقاط بعض الأنظمة الجمهورية العربية، إلا أنها هزمت في النهاية، ورجعت غالب الدول العربية لوضع الاستقرار السياسي، وإن لم يكتمل ذلك الرجوع بعد في بعض الدول.

هذا استعراضٌ مكثفٌ لما جرى في المائة عامٍ الأخيرة من صراعاتٍ ونزاعاتٍ تجلت في حروبٍ ذات أشكالٍ وألوانٍ مختلفةٍ ومتعددة، وقد رافقته خطاباتٌ متفاوتة التماسك والانتشار والتأثير، وآيديولوجياتٌ متصارعةٌ عبّرت عن حدته وتناقضاته، تداخل في بنائها القديم الموروث مع التأثيرات العالمية والمصالح الحزبية لكل تيارٍ، حتى وصلنا للحظة الراهنة.

اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى باتت احتمالية السلام أكبر من الصراع، والسلام هنا أكبر من فكرة السلام مع إسرائيل وحدها، بل هي فكرة السلام بين دول المنطقة بأسرها ومشاريعها وتوجهاتها، وقد قادت السعودية بحجمها ومكانتها وتأثيرها هذا التوجه الجديد عبر رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التي باتت واضحة للجميع، فهو في كثيرٍ من طموحاته وآماله ينطلق بمنطقٍ متماسكٍ وخطى ثابتةٍ من السعودية بوصفها مركزاً ثم المنطقة إقليمياً ثم العالم دولياً، والأمثلة كثيرةٌ.

مثالان معبران في هذا السياق، ابتدأ الأمير مشروع «الرياض الخضراء» ثم طوّره إلى «السعودية الخضراء» ثم انتقل به إلى «الشرق الأوسط الأخضر» وهو ضمن رؤيته الكبرى للبيئة والمناخ بشكل عامٍ، وكذلك مشروع «الممر الاقتصادي» بين الهند والسعودية وأوروبا، فهو تجلٍّ لرؤيته المنشورة منذ سنواتٍ التي ترى بلاده محور ربطٍ بين القارات الثلاث؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا، وعلى هذا يمكن القياس في بقية القضايا.

مَن يستطيع التفكير في حلّ نزاعات القرون وصراعات العقود الماضية شديدة التعقيد والتشابك والتداخل هو مَن يمتلك رؤيةً مستقبلية قادرةً على التجاوز، وهذا ما جرى على الأرض في السنوات القليلة الماضية، فقد أصبح الاقتصاد أولويةً لكل دول المنطقة برضا أم باضطرار، وصارت مصالح التوافق والتفاهم والتعايش أكبر بكثيرٍ من تبعات النزاع والصراع وذلك لكل الأطراف، ومن هنا جاءت إعادة الدفء للعلاقات مع تركيا، وجاء الاتفاق مع إيران برعاية صينية، وجاء إشراك الهند في مشاريع كبرى وخرج الحديث عن السلام مع إسرائيل.

دون الاتفاق مع إيران، لم يكن سهلاً تهدئة الأوضاع في العراق ولا التواصل البناء لإنهاء أزمة اليمن، ولا إعادة سوريا للجامعة العربية، ولا عودة لبنان لوضعه الطبيعي الصغير وغير المؤثر في المنطقة، ودون رسم أولوياتٍ اقتصادية ومصالح تجارية وشراكاتٍ دوليةٍ وأن المنطقة ستكون «أوروبا الجديدة» لما أمكن الحديث عن السلام.

مطالب السعودية من إسرائيل وأميركا تجاه تطوير سلامٍ حقيقيٍ مع إسرائيل معلنةٌ ومشروعةٌ، ويمكن تفهمها جيداً من الأطراف كافة، والسعودية الجديدة التي تغيّر وجه المنطقة والعالم لم يعد أحد بحاجةٍ لتجريب جديّتها وتأثيرها، فقد أصبح الأمر جلياً للجميع، وهي مستعدةٌ لكل التفاهمات التي يمكن بناؤها لتحقيق الأهداف الكبرى، ولكن وبالمقابل يجب أن تستجيب جميع الأطراف لمطالبها المعلنة والمشروعة، فالسلام الأعرج لا يمكن أن يستمرّ في المستقبل.

المطالب الفلسطينية تقع ضمن المطالب السعودية، وهي من قبل جزءٌ من «المبادرة العربية» التي قدمتها السعودية ووافقت عليها الدول العربية، فالسلام مع السعودية هو النهاية الحقيقية لما عرف لعقودٍ بالصراع العربي الإسرائيلي، والسعودية بقوتها الذاتية وتحالفاتها العربية والإقليمية وتأثيراتها الهائلة إسلامياً قادرةٌ على رسم هذه النهاية، التي ستكون إن حدثت «أعظم اتفاق تاريخي منذ الحرب الباردة»، بحسب تعبير ولي العهد السعودي في لقائه الأخير مع قناة «فوكس نيوز» الأميركية.

أخيراً، لكل شيء ثمنٌ، فللسلام ثمنٌ وللصراعات والحروب أثمانٌ، والاتفاقات الملزمة جزءٌ من السلام، والسلام صعبٌ، ولكنه محمود العاقبة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السعودية والسلام في الشرق الأوسط السعودية والسلام في الشرق الأوسط



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 16:47 2022 الجمعة ,14 كانون الثاني / يناير

حزب التجمع الوطني للأحرار" يعقد 15 مؤتمرا إقليميا بـ7 جهات

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 06:07 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صادرات الحبوب الأوكرانية تقفز 59% في أكتوبر

GMT 06:23 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صندوق النقد يتوقع نمو اقتصاد الإمارات بنسبة 5.1% في 2025

GMT 06:50 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح لتحديد أفضل وقت لحجز رحلاتكم السياحية بسعر مناسب

GMT 04:32 2020 الإثنين ,23 آذار/ مارس

ستائر غرف نوم موديل 2020

GMT 15:48 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتسرّع في خوض مغامرة مهنية قبل أن تتأكد من دقة معلوماتك

GMT 05:27 2015 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تشن حملة ضد ممثلة نشرت صورها دون الحجاب

GMT 07:16 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

الهاتف "ري فلكس" يطوى ليقلب الصفحات مثل الكتاب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib