أعباء بالجملة للدول الراهنة

أعباء بالجملة للدول الراهنة

المغرب اليوم -

أعباء بالجملة للدول الراهنة

آمال موسى
بقلم - آمال موسى

نعتقد أن الإنسانية تعرف فترة غير مسبوقة بكل المعاني والأبعاد: فترة يخطئ من يظن أنه يمكن فيها وضع استنتاجات ثابتة والبناء عليها بشكل يقيني حتى لبضع سنوات قليلة. العالم أصبح سريعاً في كل شيء، الشيء الذي جعل الاستشراف صعباً وعملية الاستعداد أكثر صعوبة.

من ناحية أخرى فإن الأفكار نفسها تتهاوى سريعاً ويتلاعب بها الواقع ويُحول وجهتها نحو نقيضها أحياناً. من ذلك الفكرة التي تقول وبدأ ترديدها بقوة مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي من أن الدولة الجديدة يقتصر دورها على التنسيق بين مكونات الفعل الاجتماعي وتوفير البنية التحتية والتراجع إلى الوراء وجعل المجموعات والأفراد يبدعون هذه الفكرة ما إن تعودت عليها دول وبدأت مجبرةً دول أخرى تحاول الانخراط الجزئي فيها حتى تتالت الأزمات لتوقف التيار وتُملي على الدول أن تضاعف من الأعباء والوظائف لا أن تخفف منها وتتنازل عن بعضها لفائدة الخواص.

بل إن في أثناء ذروة جائحة كورونا قرأنا لمفكرين تراجعاً عن أفكار كبرى وما يشبه الإعلان عن أزمة الرأسمالية. لقد كان لزاماً على الدول إنقاذ مواطنيها والاضطلاع بدورها إزاء الجميع من دون استثناء في حين أن ممثلي الرأسمالية والقطاع الخاص قاموا بتسريح العمال والموظفين ولم تقبل المصحات الخاصة من مرضى «كوفيد» إلا مَن كان قادراً على التوقيع على شيك ومالك لرصيد معتبر.

طبعاً جائحة «كوفيد» عرّت الرأسمالية وأظهرت حدودها وضعف الرهان عليها. في مقابل ذلك استعادت فكرة الدولة الاجتماعية شيئاً من البريق واتضح جلياً أن قيمة الدولة من قيمة دورها الاجتماعي وانتصارها المدجج بالإجراءات والبرامج والسياسات والممارسات إزاء الفئات ذات الهشاشة.

تمكنت الدول إذن من تسجيل نقاط ومن تنسيب فكرة الانخراط غير المحسوب في اتجاه المبادرة الخاصة وسحب الدولة أيديها من الاقتصاد لفائدة رواد الأعمال. ولكن لا تكفي حادثة أو كارثة للإطاحة بفكرة هناك حرّاسٌ كبار يعملون على تأكيدها.

لذلك فإن الحرب الروسية - الأوكرانية وتداعياتها الكبيرة على الأمن الغذائي للشعوب وأيضاً الأمن الطاقوي وصولاً إلى زلزال المغرب الذي أودى بحياة الآلاف وإعصار درنة الذي لم يشفق على آلاف من الليبيين... كل هذه الكوارث أكدت أن العالم يسيّره اليوم غير المتوقع بشكل كبير ولا يستهان به. كما بات واضحاً أن تنازل الدول أو التفريط في دورها الاجتماعي غير وارد، حيث إنه لا أحد يستطيع إدارة الكوارث والأزمات مثل الدول وأجهزتها. من ناحية أخرى فإن ضحايا الكوارث والأزمات عادةً ما يكونون من ذوي الهشاشة الاقتصادية ومن ثمَّ لا قدرة لهم على المواجهة والتحمل والصمود من دون دعم الدولة وحمايتها.

وفي الحقيقة فكرة تراجع وظائف الدولة واقتصار دورها على توفير مناخ يشجع على العمل وخلق الثروة والاستثمار هي فكرة تحمل مقومات فشلها من البداية وهي فكرة لصالح طبقة من دون غيرها وتفكر في مصالح الطبقة الغنية من دون الفقراء والطبقة المتوسطة. فكل دولة هي اجتماعية أولاً وقبل كل شيء. ولعل حجم الفقراء والمشردين وغيرهم يحتّم استمرار زمن الدولة الاجتماعية.

لا شك في أن حجم الدور الاجتماعي قد يختلف من دولة إلى أخرى حسب مؤشراتها الاجتماعية ولكن حتى الدول ذات المؤشرات المتقدمة فإنها في لحظة ما قد تطلب منها الطبيعة الغاضبة أن تكون اجتماعية مائة في المائة. بلغة أخرى فإن الاعتراف بتغيرات المناخ يقتضي الاعتراف في نفس الوقت بتضاعف الدور الاجتماعي للدولة باعتبار أن الكوارث والأزمات وتغيرات المناخ التي تأتي هي أيضاً في شكل كوارث طبيعية ظاهرة وغير ظاهرة إنما تستهدف الذين يعيشون في هشاشة، وما أكثر عددهم في عالم اليوم.

إننا في زمن المتناقضات الصارخة: خلق الثروة والفقر المدقع. زمن العلم واستعادة الطبيعة لقهرها التاريخي للإنسان.

لقد حفرت جائحة «كوفيد - 19» عميقاً في الإنسانية وأعادتها إلى ذلك الخوف الأول: الخوف من الطبيعة. ولعل كارثة زلزال المغرب وإعصار ليبيا سيعمقان هذا الخوف.

لذلك فإن تراجع دور الدولة فكرة راقت لخالقي الثروة وعملوا على تجذيرها، ولكن كل شيء يشير إلى أن أعباء الدول أصبحت بالجملة: تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتطوير الكفايات للاستعداد للأزمات والكوارث، وذلك بالعلم وبالتنمية وامتلاك مهارات العين اليقظة حتى لو كانت الشمس ساطعة والعصافير تزقزق والسماء زرقاء صافية والنسيم العليل يرفرف.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أعباء بالجملة للدول الراهنة أعباء بالجملة للدول الراهنة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 09:19 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن
المغرب اليوم - فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن

GMT 04:55 2018 الثلاثاء ,07 آب / أغسطس

" Chablé" يمثل أجمل المنتجعات لجذب السياح

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 20:53 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

شجار بالأسلحة البيضاء ينتهي بجريمة قتل بشعة في مدينة فاس

GMT 22:28 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

ولي عهد بريطانيا يقدم خطة لإنقاذ كوكب الأرض

GMT 05:06 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

"Hublot" الخزفية تتصدر عالم الساعات بلونها المثير

GMT 09:11 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

فتاة منتقبة بطلة فيلم "ما تعلاش عن الحاجب"

GMT 07:11 2018 السبت ,25 آب / أغسطس

فولكس" بولو جي تي آي" تتفوق على "Mk1 Golf GTI"

GMT 16:49 2018 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

مكرم محمد أحمد ضيف "الجمعة في مصر" على "MBC مصر"

GMT 16:34 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

مهاجم زامبي على طاولة فريق الدفاع الحسني الجديدي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib