الأسرة تتهاوى ما العمل

الأسرة تتهاوى... ما العمل؟

المغرب اليوم -

الأسرة تتهاوى ما العمل

آمال موسى
بقلم - آمال موسى

يتَّخذ الحديث عن الحداثة أبعاداً متضاربة في واقعنا اليوم: فهي من جهة المنظومة القيمية التي انتصرت للفرد ولحرية العقل والنقد، وقوضت هيمنة المؤسسات الاجتماعية، وعبَّدت الطريق نحوَ كتابة تاريخ جديد يؤدي فيه الإنسان الفرد دوراً محورياً وتجاوز مرتبة التابع للمؤسسات. وهو تاريخ مهم جداً تغيرت معه مسائل أخرى كبيرة ومتشعبة تقوم بكليتها في تشكيل الفعل الاجتماعي بشكل عام. لا أعتقد أنَّ ما فعله رايمون بودون، يمكن أن يجحدَه تاريخُ الحداثةِ باعتبار أنَّ الفردانية المنهجية معها بدأ مفهوم الفاعل الاجتماعي والسلوك العقلاني الذي عرف نضجاً مخصوصاً مع ماكس فيبر مؤسس الفعلانية في علم الاجتماع.
                 

هذا المديح الذي رفع نبرته عالياً مفكرون ومبدعون كثيرون لم يمنع من ظهور عين أخرى التقطت انحرافات الحداثة بالمجتمع، وأخذه إلى حين المشكلات التي هي الوجه المسكوت عنه من تداعيات الفردانية.

ما حصل في أوروبا وهي الفضاء الذي ظهرت فيه الحداثة أحداثاً وتراكمات، هو أنها نعمت بنعيم الحداثة وتلذذت بطيب مذاقها ومناقبها على الفرد والمجتمع والعقل الإنساني، ثم وبعد زمن طويل بدأ المفكرون يقبضون على مظاهر انحرافاتها بالمجتمع، في حين أن بلدان العالم السائر في ريق النمو لم تستكمل عملية التحديث بعد. أي أن قدرنا المزاوجة بين الإيجابي والسلبي في مخاض الحداثة والتحديث، مما يزيد من حدة تشابك المتناقضات وإرباكها لنا، خصوصاً أن فضَّ الشباك وحل العقد يتطلبان وتيرة هادئة تمكن من الإمعان والفصل والتمييز بين الأشياء.

المجتمعات اليوم بتفاوت - نسبي طبعاً - تتجاذبها سلبيات الحداثة وفتوحاتها. ولعلَّ ما تعرفه الأسرة اليوم من تراجع من حيث الوظيفة، إنما يجعلها على رأس التكلفة السلبية للحداثة والتحديث.

ولا نعتقد أنَّ تأذي الأسرة في وظيفتها، وفي قدرها كمؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، أمرٌ هينٌ، أو يمكن عدم إثارته أو التعامل معه كفاتورة لا مناص من عدم دفعها إذا أردنا الحداثة ومنتجاتها. فنحن هنا نتناول المجتمع أيضاً: الأسرة تمثل الخلية والمجتمع هو الجسد. وإذا تم التفريط في الخلية تلو الخلية، فهذا يعني آلياً أن فكرة المجتمع ذاتها مهددة.

وما نلاحظه في الإنتاجات الفكرية اليوم على قلتها هو أنها تحفر في انحرافات الحداثة وظواهر الاغتراب والفردانية القصويّة وهيمنة الفلسفة المادية، ولكن دون طرح واضح ومباشر لمشكلة أن المجتمع نفسه كهيكل وبناء وتنظيم في حالة تهديد بالتلاشي على المدى البعيد، وهو تهديد يستحق العناية من منطلق أن الإنسانية لم تجرب غير فكرة المجتمع وبناء المجتمع. طبعاً لا تفوتنا الإشارة إلى تداعيات انهيار منظومة الأسرة، وما تمثله من نظام اجتماعي قديم جداً في تاريخ الإنسانية، حيث إن القيم التي يقوم عليها المجتمع الصحي الإيجابي المتضامن والمتساند، إنما تتم التنشئة عليها وتنقل من الأسرة، وهنا تصبح المشكلة ومظاهر التهديد مضاعفة.

قد يرى البعضُ في توصيف الأسرة بأنَّها تتهاوى أمراً مبالغاً فيه، خصوصاً في الفضاء العربي الإسلامي. لكن السؤال هنا يكمن في إيجاد الأسرة التي تقوم بدورها وتحظى بقيمة اعتبارية... ربما هناك، ولكن ليس هذا معمماً.

وفي هذا السياق فإنَّ التهاوي ليس نفسه في كل الحالات: فالأسرة مؤسسة اجتماعية عريقة، بل إنها من أقدم المؤسسات الاجتماعية، لذلك فإن الشقوق التي باتت تعرفها تُؤذن بخراب هذه المؤسسة تماماً، كما يؤذن التوتر والتلاسن والصمت في العلاقة بين الزوجين بالانفصال وإن تأخر القرار.

فالعزوف عن تكوين أسرة اليوم بدأ يظهر بشكل محتشم. ارتفاع أرقام الطلاق في السنة الأولى والثانية من الزواج، وهو أمر متعدد التأثيرات السلبية، لعل من أكثرها إشكالية هو أنَّ أطفالَ الطلاق لا يعرفون الأسرة ويَكبرون خارجها، ورد فعلهم تجاهها مفتوحٌ على سيناريوهات عدّة. لن ننسى أيضاً ما باتت تفعله وسائل تكنولوجيا الاتصال من مسافات بين أفراد الأسرة الواحدة. مررنا من الأسرة الكبيرة التي تسمى الممتدة إلى الأسرة النواة، وأغلب الظن أن المجتمعات ذاهبة دون وعي منها إلى عالم من الأفراد بديلاً لعالم المجتمعات. قد يطول الأمر ولكن وتيرة التغيرات تدعم تحليلنا، اللهم إذا رفضت المجتمعات اليوم موقف المتفرج ودافعت عن خليَّتها الأولى وجعلت منها موضوعاً للفكر وللتدارك.

لا شك في أن الضغوطات الاقتصادية أسهمت بشكل كبير في تصدع مؤسسة الأسرة وحولتها في أمثلة كثيرة إلى فضاء للنزاع والعنف، وأفقدتها منسوبها في العواطف والإيجابية والعلاقات التواصلية، ولكن في الوقت نفسه يجب ألا نستهين بالتغيير الثقافي والقيمي ودوره في تهاوي الأسرة، حيث إن الصعوبات الاقتصادية كان يمكن أن تشكل عاملَ تضامنٍ ووحدة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأسرة تتهاوى ما العمل الأسرة تتهاوى ما العمل



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 16:47 2022 الجمعة ,14 كانون الثاني / يناير

حزب التجمع الوطني للأحرار" يعقد 15 مؤتمرا إقليميا بـ7 جهات

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 06:07 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صادرات الحبوب الأوكرانية تقفز 59% في أكتوبر

GMT 06:23 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

صندوق النقد يتوقع نمو اقتصاد الإمارات بنسبة 5.1% في 2025

GMT 06:50 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح لتحديد أفضل وقت لحجز رحلاتكم السياحية بسعر مناسب

GMT 04:32 2020 الإثنين ,23 آذار/ مارس

ستائر غرف نوم موديل 2020

GMT 15:48 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتسرّع في خوض مغامرة مهنية قبل أن تتأكد من دقة معلوماتك

GMT 05:27 2015 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تشن حملة ضد ممثلة نشرت صورها دون الحجاب

GMT 07:16 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

الهاتف "ري فلكس" يطوى ليقلب الصفحات مثل الكتاب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib