الخوف سبب ثلاثة أرباع آفات السياسة

الخوف... سبب ثلاثة أرباع آفات السياسة

المغرب اليوم -

الخوف سبب ثلاثة أرباع آفات السياسة

إياد أبو شقرا
بقلم : إياد أبو شقرا

في عالم يصدمنا بالمفاجآت كل يوم تقريباً، تلحّ على ذاكرتي كلمات القائد العسكري والسياسي النازي الألماني هيرمان غورينغ لصحافي أميركي كان يتكلم أمامه عن فضائل الديمقراطية التي تعصم عن المغامرات السياسية القاتلة.
يومذاك، قاطعه غورينغ - من سجنه، قبل انتحاره بالسم - سائلاً «أي ديمقراطية... أي خيار للشعب؟ عندما تزرع الخوف في نفوس الناس تراهم يعطونك قرارهم وحرياتهم بلا تردد!!».
هذه الكلمات سمعتها منذ سنوات بعيدة، لكن صدقها تثبته الأحداث التي نراها من حولنا في معظم دول العالم، بصرف النظر عن الأحجام والثراء والثقافة ونوعية النظام السياسي.
الخوف، ربما أكثر من الطمع، هو السبب الأكبر والأخطر لآفات السياسة على امتداد المعمورة.
الخوف من أي شيء، من أي فكرة، من أي هوية، من أي تيار، ومن أي «عدو» حقيقي أو وهمي أو مصطنع... يبني قناعات ويولّد توجهات ويثمر مواقف وقرارات - قد تكون مجنونة - حول السلم والحرب.
لئن كانت «الديمقراطية»، التي كان تغنّى بها ذلك الصحافي الأميركي أمام غورينغ، واعتبرها خياراً واقياً من الأخطاء والحروب، هي حقاً كذلك... لما ارتكبت الديمقراطيات الغربية أخطاء استراتيجية فظيعة ولا تزال.
بل ما كانت أسس الديمقراطية نفسها مهدّدة في مصيرها داخل أكبر ديمقراطيات العالم كالولايات المتحدة والهند - مثلا - وذلك بعدما استغل قادة شعبويون «خوف» قطاعات واسعة من الناخبين... ليس فقط على مصالحهم بل على وجودهم أيضاً.
ما حرّكه دونالد ترمب قبل انتخابه رئيساً لأميركا، ثم بعد خسارته الرئاسة، كان «الخوف».
«خوف» الأميركي الجرماني والسلافي والكلتي المسيحي الأبيض من «تسونامي» عرقي أسود وأسمر وأصفر - وأحيانا غير مسيحي - استوجب رفع شعار «إعادة عظمة أميركا من جديد»... وبناء «جدار فصل» عن خزان بشري «غريب» يمتد على طول الحدود مع المكسيك.
مع الظاهرة الترمبية اقتنع قطاع كبير من الأميركيين بأن أمنهم أهم بكثير من نظام ديمقراطي يعطي الغالبية - وبالتالي، السلطة - لغير الأوروبيين البيض المسيحيين. ولهذا، أيّد ملايين «الترمبيين» مهاجمة مبنى «الكابيتول»، رمز الديمقراطية، رفضاً لنتائج انتخابات حرة اعتمدت فيها أرقى أنظمة التصويت، وفي بلاد فيدرالية السلطة يحكم غالبية ولاياتها الخمسين حزب ترمب... الحزب الجمهوري.
وهكذا، تبيّن أن «الخوف» في «أميركا ترمب» كان ولا يزال أقوى بكثير من «الديمقراطية» المثالية التي أرسى دعائمها مؤسسو أحد أنجح نماذج الحكم التعددي الاتحادي في العالم.
في المقابل، بعيداً تماماً عن الخلفية «اللاديمقراطية» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نجد «الخوف» أيضاً في صميم الحرب المستعرة حالياً على أرض أوكرانيا.
الذاكرة الروسية التاريخية قوية جداً. إنها ذاكرة حية عصيّة على تغيّرات الرقعة الجغرافية، وتعدّد المكوّنات الداخلية والأعداء الخارجيين، وتتابع أنظمة الحكم المتناقضة التي تولت السلطة في الكرملين... حيث لم تجرّب «الديمقراطية» الحقيقية إطلاقاً في يوم من الأيام.
أصلاً الشخصية الروسية - ومن ثَم السلطة التي أنتجتها هذه الشخصية - لم تهضم «الديمقراطية» - وفق تعريفها الغربي - ولا جرّبتها. بل انتقل الحكم من مشاعية عشائرية قاسية، إلى «قياصرة» القصور، ثم «قوميسارات» البلاشفة... وصولاً إلى «أبارتشيكيي» و«مافيويي» ما بعد البلشفية. بيد أنه بقدر ما كانت «الديمقراطية» غائبة كان «الخوف» حاضراً، وإن داخَله في فترات متباعدة عُنصرا الطمع والثأر.
وراهناً، يخطئ جداً مَن يظن أن جيل بوتين، ابن مدرسة «الكي جي بي»، وتلميذ مفاهيم «صراع الشرق والغرب»، وصاحب هواجس «روسيا المحاصرة»، يقاتل في أوكرانيا من مُنطلَق محض إمبريالي توسّعي.
صحيح، أن هذا ما يبدو الغرب مقتنعاً به، لكن بوتين وغلاة القوميين الروس معه، يعتبرون أن الاحتفاظ بأوكرانيا وبيلاروسيا يضمن الإبقاء على «خط دفاع سلافي» متقدّم يحمي قلب روسيا، ويحول دون تكرار تجربتي نابليون بونابرت وأدولف هتلر وأحلام حلف شمال الأطلسي «ناتو».
في عزّ «الحرب الباردة» لم تجد موسكو أي حاجة «دفاعية» لغزو يوغوسلافيا ثم رومانيا، رغم ابتعاد جوزيف بروز تيتو ونيكولاي تشاوسيسكو عن «مظلتها». إلا أنها تحرّكت بالقوة وبسرعة ضد المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، ثم بولندا في أواخر أيام الاتحاد السوفياتي. وكان السبب الأبرز أن غالبية السكان في يوغوسلافيا ورومانيا أرثوذكسية «مشرقية المرجعية»، ومن ثم، لا ولاء فيهما لـ«مرجعية غربية» (مع أن تيتو كاثوليكي كرواتي). ولكن في المقابل، كانت تخشى كثيراً سقوط المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، بغالبياتها الكاثوليكية... وارتماءها في أحضان الغرب.
وبالفعل، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و«حلف وارسو»، ضُمَّت الدول الكاثوليكية - الشيوعية سابقاً - بسرعة إلى الاتحاد الأوروبي بعكس الدول الأرثوذكسية.
حتى في الهند، حيث يشكل الهندوس غالبية ضخمة، يتخوّف القوميون والطائفيون الهندوس المتشدّدون، مثل رئيس الحكومة الحالي ناريندرا مودي، من «عدوّين» يعتبرونهما خطيرين:
العدو الأول - عند هؤلاء - المسلمون داخل الهند الحالية وفي كل من باكستان وبنغلاديش المتاخمتين للهند من الغرب والشرق. وللعلم، يشكل مسلمو كيانات شبه القارة الهندية اليوم نحو 600 مليون نسمة مقابل 900 مليون هندوسي، ولكن الجانبين يملكان قدرات عسكرية نووية مدمّرة.
والثاني، هو الصين العملاق الآخر الكبير الذي بينه وبين الهند نزاع حدودي مزمن. والصين أيضاً قوة نووية جبارة.
«الخوف» كان موجوداً أيضاً في تصويت البريطانيين شبه الانتحاري لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي خوفاً من اليد العاملة الأوروبية الشرقية، وكذلك في تحول عنصريي فرنسا إلى رقم صعب ومقبول في الحياة السياسية الفرنسية عبر صناديق الاقتراع «تخوفاً» من تزايد مهاجري ولاجئي عبر المتوسط، ثم إنه أسهم أيضاً عبر صناديق الاقتراع ولعبة الديمقراطية في عودة ورثة الفاشية الموسولينية إلى الحكم في إيطاليا.
الشيء نفسه ينطبق علينا نحن العرب «المتخوفين» من عداء «جيران»، كل منهم يهددنا بأسلوبه وتبعاً لمخططه، ويقذف بنا كل منهم نحو الآخر... فنرضى طلباً للحماية. فالمتخوّف من توسعية الليكوديين يتوقّع الحماية من ملالي إيران والعكس صحيح، ومَن يخشى من الجانبين يُهرول نحو «ملاذ آمن» مأمول تحت خيمة رجب طيب إردوغان...
هذا للأسف واقع العالم، حيث يسود منطقا «الغاية تبرر الواسطة» و«إذا كان عليّ أن أختار بين أن أكون النعجة أو الجزّار فلن أتردد في أن أكون الجزار!!».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخوف سبب ثلاثة أرباع آفات السياسة الخوف سبب ثلاثة أرباع آفات السياسة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 15:34 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام
المغرب اليوم - سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:14 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 18:57 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 14:11 2015 السبت ,23 أيار / مايو

العمران تهيئ تجزئة سكنية بدون ترخيص

GMT 17:38 2022 السبت ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه الذهب يسجل رقماً قياسياً لأول مرة في مصر

GMT 15:13 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

تغلبي على الخوف من عيوب جسدك مع ارتداء الحجاب

GMT 15:12 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

عمران فهمي يتوج بدوري بلجيكا للمواي تاي

GMT 08:03 2018 الأربعاء ,14 آذار/ مارس

ما الذي سيقدمه "الأسطورة" في رمضان 2018؟

GMT 20:50 2018 السبت ,24 شباط / فبراير

خفيفي يعترف بصعوبة مواجهة جمعية سلا

GMT 17:06 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

وليد الكرتي جاهز للمشاركة في الديربي البيضاوي

GMT 06:59 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

كليروايت تغزو السجادة الحمراء بتشكيلة متميزة

GMT 17:54 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الفالح يُعلن أهمية استمرار إجراءات خفض إنتاج الخام

GMT 19:57 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

مهرجان أسوان لأفلام المرأة يفتح باب التسجيل بشكل رسمي

GMT 05:45 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

ابتكار روبوت مصغر يتم زراعته في الجسم

GMT 23:06 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

مشروع الوداد يؤخر تعاقده مع غوركوف
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib