الحجْر في مدينة الحدائق

الحجْر في مدينة الحدائق

المغرب اليوم -

الحجْر في مدينة الحدائق

سمير عطاالله
سمير عطاالله

أمران خاصان وسبب عام: هذه أول مرة في عقود كثيرة أُمضي نصف سنة من دون سفر. الآخر، هذه أول مرة، في عدد مماثل من العقود، أتغيب عن لندن ما يزيد على ثلاث سنوات. وبعد عمر في الترحل والمدن والأوطان فعندما أُسأل: ما هو موطنك؟ أجيب من دون تردد، لندن. وتعني كلمة Home في الإنجليزية مزيجاً من الموطن والمنزل والمقام. ولا أقول بيروت، لأنها وطن مهدد على الدوام بجماله وروعته، يضيع فيه رجال الحكم بين غنغسترية المافيات، ويذوب اقتصاده من دون أن يقاضى أو يستقيل وزير، وتُقتل الطفلة ألكسندرا نجار (3 سنوات) وضفيرتها وابتسامتها والوردة التي تربط بها شعرها، فيما كانت أمها تنقلها من الشرفة إلى الداخل لحمايتها من هيروشيما المباغتة.

هيروشيما لا تميز بين ألكسندرا، المدلّلة في الروضة بتصغير «ألكسيوو»، وبين عجائز الرميل، اللاتي لا يملكن ترف التزين بالورود. بالكاد ثمن ربطة الخبز. تأخرت في السفر إلى لندن، توهماً من وطأة الحجْر. أسبوعان في سجن حرّ. وفي النهاية كان لا بد من لندن ولو طال الحجْر.

سبحان الله. ما أقسى فكرة السجن حتى في مدينة الحدائق. أو خصوصاً في مدينة الحدائق. وعندما خرجت من هيثرو، شعرت كأنني أسافر لأول مرة إلى بلاد شوارع نظيفة، وسيارات سوية، وطرق لها أرصفة، وسير له قانون، وأشجار لم تقطعها الدولة.

وفي الأيام الأولى من الحجْر، كنت لا أزال ممتلئاً ببيروت. ترعد السماء، فارتعد ظناً أنه الميناء. وأسمع صوت طائرة مدنية فأرتعد ذُلاًّ وإهانة، ظناً أنها طائرات حربية إسرائيلية تقوم بنزهاتها اليومية في بلد السيادة والحرية والاستقلال. وحرصاً على تلك السيادة، رفض الرئيس ميشال عون مبدأ «التحقيق الدولي» في هيروشيما الميناء. رحم الله «ألكسيوو».

بعد أسبوع من لندن تجرأت وتسللت خارجاً من المنزل نحو بارك «بريم روز هيل». تصور شعورك وأنت تخرج من عالم حدوده غرفتان إلى بحيرة من الأشجار المتهدلة فوق نفسها منذ عشرات السنين. لكن شعور الخوف تبعني إلى الحديقة. وكلما مرَّ بي رجل خفت أن يكون هو الشرطي السرّي في وزارة الصحة، جاء يحمِّلني مسؤولية المغامرة بأمن البلاد. وعلى نحو ما، شعرت في المقابل بمتعة مضاعفة ألف مرة: جمال الحديقة وروعة الحرية والهواء الطلق. فكّرت في عشرات الآلاف من العرب الذين أمضوا أعمارهم في السجون والزنازن. صادف ذلك نشر مذكرات السيد مضر بدران التي تحدث فيها عن كيف كان صدام حسين ينتفض، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالكرامة والشهامة! لا أدري إن كان «الرئيس صدام» قد أرسل الآلاف إلى السجون والموت بدافع الشهامة، أو الكرامة، أو كلتيهما معاً. الأكيد أن شعار الحرية كان حاضراً أبداً في ديار النظام العربي، يشرف على صيانته رجال مثل سبعاوي وصلاح نصر.
يأتي يوم يفضل فيه الناس الحجْر في لندن على حريات النظام العربي. وعندما رأيت الأطفال يلهون في حديقة «بريم روز هيل» كنت أرى في وجوههم صورة «ألكسيوو» يوم كان يحملها والدها على كتفيه في مظاهرات ساحة الشهداء، حاملة علم لبنان، من أجل ألا يبقى لبنان بلداً للشهداء. علّموها الدرس الأخير وهي بعد في الروضة وفي شعرها وردة حمراء.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحجْر في مدينة الحدائق الحجْر في مدينة الحدائق



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:34 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيفا" يكشف أسباب ترشيح ميسي لجائزة "الأفضل"
المغرب اليوم -

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib