هاجس يسكن الكرملين

هاجس يسكن الكرملين

المغرب اليوم -

هاجس يسكن الكرملين

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

النكتة السياسية تقول إن الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف كان قد سمع عن جهاز إلكتروني يقرأ طالع الدول، وكان قد أراد أن يعرف من الجهاز إجابة عن سؤال كان يشغله، فطلب أن يسألوه عن مستقبل الاتحاد السوفياتي كيف سيكون؟!
وحين زودوا الجهاز بالمعلومات المطلوبة عن الموضوع، محل السؤال الذي يؤرق بريجنيف، فإن الإجابة التي ظهرت على شاشته كانت من خمس كلمات تقول: الحدود الصينية - الفنلندية هادئة تماماً!
وكانت عبارة كهذه كفيلة بأن تضاعف من أرق الزعيم ومن شواغله فلا تجعله ينام، بل كانت كفيلة بأن تصيبه بالجنون. ولا بد أنه قد ندم على سؤاله الذي توجه به إلى الجهاز، ولا بد أيضاً أنه قد استقبل هذه الإجابة ولسان حاله يردد ما كان الإمام علي بن أبي طالب يردده ويقول: لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع!
ولأنه لا توجد حدود مباشرة بين الصين وفنلندا، ولأن الأولى تقع جنوب شرقي حدود الاتحاد وقتها، والثانية تقع إلى الشمال الغربي من حدوده، ولأن مساحة الاتحاد على اتساعها كانت تفصل بينهما، فمعنى إجابة الجهاز أن حدوداً مباشرة ستمتد في المستقبل بين الدولتين الجارتين للسوفيات. ولا معنى لوجود حدود مباشرة بينهما في أي وقت، إلا أن تجتاح القوات الصينية أرض الاتحاد السوفياتي بالكامل، فتقوم في هذه الحالة فقط حدود مشتركة بين الصين وفنلندا!
وليس هناك معنى للإجابة التي جاءت عن السؤال، سوى أن هاجساً يتصل بالحدود والجوار كان على الدوام يشغل الاتحاد السوفياتي في زمانه، وكان يشغل بالطبع زعماءه الكبار، لولا أن بريجنيف كان هو الوحيد بينهم الذي عبّر عمّا يشعله في هذا الشأن في العلن، وكان عليه لسوء حظه أن يتلقى تلك الإجابة الصادمة التي لم يحدث أن تلقاها من قبله زعيم من زعماء الاتحاد.
ولا يغيِّر من وطأة الصدمة في الإجابة التي قدمها جهاز قراءة الطالع، ولا من ثقلها على صدر بريجنيف، أن تكون قد جاءت في شكل نكتة سياسية، فالنكت من هذا النوع هي في النهاية تعبير عن أشياء تدور على الأرض، أو حتى عن أشياء تختمر في الخفاء من خلف ستار!
ولأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رجل مخابرات في الأصل، فالمؤكد أن هذه النكتة قد وصلت إليه في وقتها، والمؤكد كذلك أن معناها قد استقر في داخله منذ وقت مبكر، ومنذ أن كان ضابطاً صغيراً في ألمانيا الشرقية، تشغله حدود الاتحاد وامتداداته على الخريطة، ويتساءل بينه وبين نفسه عمّا إذا كانت ستبقى على حالها، أم أن طارئاً سوف يطرأ فيعيد رسمها من جديد؟!
وإذا ما تأملنا الحرب الروسية على أوكرانيا في واحد من أبعادها، فمن الجائز ألا يخرج هذا البعد في هذه الحرب التي دخلت يومها المائة قبل أيام، عن أن هاجس الحدود والجوار لم يغادر مكانه في الكرملين، وأن روسيا قد ورثته عن الاتحاد السابق، وأنه قد انتقل من بريجنيف إلى بوتين، وأن وطأته قد زادت مرتين: مرة في أعقاب انهيار جدار برلين نهاية ثمانينات القرن الماضي، ومرة ثانية في مطلع التسعينات من القرن نفسه عندما سقط الاتحاد واختفى من الوجود!
ولا أحد يعرف إلى أي درجة بالضبط وصل منسوب هذا الهاجس على مدى أسابيع وأيام مضت، وبالتحديد منذ أن كانت الحرب الروسية على أوكرانيا طريقاً إلى وقائع جرت على الأرض، فأرسلت من الإشارات ما يقوّي هاجس الحدود والجوار لدى ساكن الكرملين ثم يرسخه؟!
فالحرب ما كادت تدخل شهرها الثالث حتى كانت فنلندا قد طلبت مع السويد عضوية حلف شمال الأطلنطي، وما كاد الطلب يصل إلى قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل حتى كان الاتحاد يجتمع على الفور للنظر فيه، وما كاد الاجتماع ينفضّ حتى فهمنا أن الطلب سيحظى بالموافقة في الغالب، وأن ذلك سيكون في اجتماع للاتحاد سينعقد في إسبانيا آخر هذا الشهر!
ورغم أن الطلب يضم السويد وفنلندا معاً، فإن إقدام فنلندا بالذات على خطوة كهذه يكتسب معناه الخاص لدى الروس، لأن كل مواطن روسي عاش أيام النكتة السياسية مع بريجنيف، أو سمع بها في وقت لاحق، لا يمكن أن ينسى أن فنلندا كانت هي الطرف الثاني في تلك النكتة التي راجت كثيراً في زمن الاتحاد، وإذا نسي الروس عموماً فالقيصر الجالس في الكرملين لا يستطيع أن ينسى مهما حاول النسيان، وكيف ينسى بينما الهاجس مقيم في أعماقه لا يفارقها؟!
إن الفنلنديين يشاركون الروس إطلالة مهمة على الشاطئ الشرقي الجنوبي من بحر البلطيق، ولا معنى لانضمام فنلندا إلى حلف الناتو سوى أنه صار شريكاً لروسيا في الإطلال على هذا البحر الحيوي، فإذا ما انضمت السويد هي الأخرى من موقعها على الشاطئ الغربي لهذا البحر، فمعنى ذلك أن الحلف العسكري الغربي قد أصبح يهيمن على البلطيق إلا قليلاً!
والراجح أن طلب انضمام فنلندا على وجه الخصوص، قد أيقظ في اللاشعور الروسي وطأة النكتة السياسية القديمة بكل ما يمكن أن يكون لها من ظلال عصرية في زمن ما بعد الاتحاد السوفياتي، وبكل ما يمكن أن تثيره من مخاوف في العقل الباطن لدى موسكو!
ولم تكن العاصمة الروسية قد أفاقت بعد مما أثاره نبأ انضمام فنلندا في عقلها الباطن، حتى وجدت نفسها على موعد مع واقعة أخرى لا تختلف عن واقعة الانضمام الفنلندي إلى الناتو، من حيث صداها، ومن حيث مدى وصول رجع الصدى عندها إلى ما يمكن أن يصل إليه!
وكانت الواقعة الجديدة هي التي اكتشف سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، أنها تنتظره عندما أخذ طائرته قبل ساعات وقرر زيارة صربيا القريبة من بلاده!
لم يكن يتوقع أن طائرته يمكن أن تعود من حيث أتت، ولا كان يعرف أن الزيارة لن تتم، لا لأن عطباً أصاب الطائرة، ولا لأن الجماعة في الصرب قد اعتذروا عن عدم استقباله، ولا لأن الأحوال الجوية قد حالت دون إتمامها، فالأحوال التي حالت دونها كانت سياسية ولم تكن جوية بأي حال!
لقد رفضت بلغاريا، ومقدونيا الشمالية، ومونتينيغرو، السماح بمرور طائرته في أجوائها، وتمسكت كل دولة من الدول الثلاث بموقفها، ولم يكن أمام الوزير الروسي غير أن يستدير عائداً إلى بلاده. ولم يغيّر من الأمر في شيء لدى حكومات الدول الثلاث، أن يستاء هو مما جرى أو أن يصف منع طائرته بأنه غير مقبول، ولا أن تقول ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، إن ما حدث هو قطع لقناة أخرى من قنوات الاتصال مع روسيا من جانب أوروبا وأميركا وحلفائهما!
لم يغيّر ذلك من حقيقة الأمر بالنسبة له في شيء، ولم يكن قرار الدول الثلاث إلا خطوة مضافة إلى خطوة فنلندا والسويد في اتجاه إيقاظ ما كانت النكتة السياسية القديمة تحمله من المعاني!
وإذا كانت روسيا قد أحسّت من قرار انضمام فنلندا والسويد أن بحر البلطيق على وشك أن يكون مغلقاً أمامها، فهذا هو إحساسها نفسه في حالة الدول الثلاث التي أغلقت مجالها الجوي في وجه طائرة لافروف، ولكنه إحساس هذه المرة في الجو لا في البحر!
لم يتوقع بريجنيف أن يأتي يوم تتحول فيه النكتة التي وضعها جهاز قراءة الطالع على مكتبه، من مجرد نكتة سياسية قد يختلط فيها الواقع بالخيال، إلى واقع سياسي يخيم كالشبح في فضاء الكرملين، ويثقل قلب بوتين وعقله على السواء!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هاجس يسكن الكرملين هاجس يسكن الكرملين



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib