الجمل بما حَمَل في ليبيا

الجمل بما حَمَل في ليبيا

المغرب اليوم -

الجمل بما حَمَل في ليبيا

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

تمنيت لو أني أعرف محمد الشكري، محافظ البنك المركزي الليبي المكلف، لأصافحه لا أكثر، وأشدّ على يديه لا أقل.

لقد أعاد الرجل تذكيري بالأمير كمال الدين حسين، ابن السلطان حسين كامل، الذي كان سلطاناً على مصر بدءاً من 1914 إلى أن غادر دنيانا في 1917. كان من الطبيعي بعدها أن يخلفه ابنه الأمير كمال الدين الذي رفض الكرسي السلطاني وأعلن زهده فيه، فجاء السلطان فؤاد الذي صار الملك فؤاد في مرحلة تالية.

هذا الموقف من جانب الأمير الزاهد لا مثيل له في تاريخ مصر المحروسة الحديث، وربما فيما هو أبعد من تاريخها الحديث، لأن الناس عاشوا يعرفون التقاتل على مقاعد السلطة، ولم يعرفوا هذه الدرجة المثالية في النظر إلى الكرسي. فإذا كان الكرسي كرسي سلطان بكل ما يعرفه صاحبه حوله من هيلمان، فإن الدهشة من موقف الأمير تظل مقرونةً بدرجة مماثلة من الإعجاب.

ولا يكاد الكرسي الذي زهد فيه المحافظ الشكري يقل عن كرسي الأمير الزاهد، وإلّا فهل يمكن لكرسي محافظ البنك المركزي في بلد نفطي مثل ليبيا أن يكون أقل شأناً من كرسي الحكم أو السلطة بمعناها السياسي المباشر؟

والذين يتابعون الشأن العام الليبي يعرفون أن المجلس الرئاسي الذي يرأسه محمد المنفي، كان قد أصدر قراراً يتولى بموجبه محمد الشكري منصب محافظ البنك المركزي، خلفاً للصديق الكبير الذي تولى المنصب لسنوات طويلة. كان الصديق قد بقي في منصبه طويلاً إلى حد أن كثيرين صاروا يقرنون بين الكيان وبين الشخص، ولا يتصورون وجود البنك المركزي الليبي بغير أن يكون الصديق على رأسه، كما لا يتخيلون الصديق بغير أن يكون على قمة البنك.

وللأمانة، فإن الأنباء التي كانت تأتي عن البنك طوال وجود الرجل على قمته، كانت تشير إلى أنه عاش يحرص على إبعاد البنك المركزي عن الصراعات السياسية التي تموج بها البلاد منذ ما يزيد على عقد من الزمان، وعاش يراعي الحدود الدنيا في الحفاظ على استقلالية الكيان الذي جعلته الظروف مسؤولاً عنه، وقد كان يفعل ذلك ويمارسه عن دراية بأن ألف باء عمل أي بنك مركزي في العالم هو استقلاليته عن السلطة التنفيذية في البلد.

وهذا بالضبط هو ما يدركه المحافظ المكلف أيضاً، وقد أدركه أكثر في اللحظة التي جاءه فيها تكليف المجلس الرئاسي بأن يكون على رأس البنك المسؤول عن وضع السياسة النقدية في البلد، والمسؤول كذلك عن عدم السماح للحكومة بألا تطغى سياستها المالية على سياسة البنك النقدية، والمسؤول للمرة الثالثة عن أن يظل يعمل في هذا النطاق، فتأتي سياسة الحكومة المالية في النهاية سياسة رشيدة، ولا تكون على حساب السياسة النقدية، أو على حساب استقلاليتها التي لا فصال حولها في أي اقتصاد متماسك.

أدرك المحافظ الشكري هذه المعاني الاقتصادية كلها، فقال إنه لا يقبل أن يكون جزءاً من العبث السياسي الدائر في ليبيا، وأن مجلس النواب إذا كان لا يوافق على توليه هذا المنصب ولا كذلك مجلس الدولة، فإنه لن يوافق على تولي منصب المحافظ، إلا إذا توافق المجلسان عليه، وإلا إذا رضيا معاً بأن يكون في موقع المحافظ بدلاً من الصديق الكبير.

وليس سراً أن الجَمل بما حَمل يتصارع عليه كثيرون في ليبيا، وأن تكليف الشكري وجهٌ من وجوه هذا الصراع، وأن الخلاف الحاصل على تكليفه ينقل الصراع من صراع على السلطة إلى صراع على الثروة، ولذلك يرفض التكليف الذي يأتي كأنه قناع لأشياء وراءه يراها بالقطع الليبيون جميعاً ويعرفونها كما يعرف كل مواطن منهم يديه.

والحقيقة أن في ليبيا ستة رجال لو جلسوا على مائدة واحدة واتفقوا على تقديم الوطن على ما سواه، فلن تكون في البلاد مشكلة، وعندها ستكون ليبيا على ما يتعين أن تكون عليه. في البلاد خليفة حفتر قائد الجيش، وعقيلة صالح رئيس البرلمان، وأسامة حماد رئيس حكومة الاستقرار في الشرق، ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، ومحمد تكالة رئيس مجلس الدولة المنتهية ولايته، وعبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة في الغرب. ولو توافقوا جميعهم على أن تكون ليبيا أولاً لا ثانياً، فلن تكون بلادهم في حاجة إلى المبعوث الأممي الذي يروح عليها ويجيء من دون تقديم أي شيء.

ليبيا في حاجة إلى رجال من نوعية محافظ البنك المكلف، الذي أظهر لنا ما يشير إلى أنه لا يشغله منصبه في البنك بقدر ما يهمه بلده، والذي يقدم استقرار البلد على وظيفته الرفيعة في البنك، والذي لا يغريه الجَمل بما حَمل. لا يغريه ذلك ولا يتردد في التخلي عنه إذا ما أحس بأن سمعة البنك، هي ثمن قبوله بالجلوس على رأس الكيان المختص بصناعة السياسة النقدية في البلد، وحماية مركز عُملته الوطنية بين بقية العُملات.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجمل بما حَمَل في ليبيا الجمل بما حَمَل في ليبيا



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib