ما بين ربيع هذه السنة، وصيفها، ثم خريفها في هذه الأيام، بادرت الرياض إلى إطلاق ثلاث مبادرات يضمها كلها سياق متكامل!وسوف يتبين لك وأنا أستعرض أمامك ما كان في فصول السنة الثلاثة، أن ما حدث فيها يشير إلى وجود رؤية تجمع كل شيء من نوعه في إطار واحد، وتجعل ما جرى في الربيع يكمل ما جاء بعده في الصيف، وتأخذ ما جدّ في الخريف ليضاف إلى ما شهده الفصلان السابقان في أوانهما!
ففي الربيع، كان الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، قد أطلق مبادرتين في الوقت نفسه، وكانت المبادرة الأولى ترفع شعار «السعودية الخضراء» على اعتبار أن هذا الشعار سوف يكون هو الحاكم، خلال مراحل من العمل ستسعى إلى تحويله من شعار يتشكل بالكاد من كلمتين اثنتين، إلى ترجمة حية تملك رصيدها على الأرض على نحو يراه الناس!
كانت هذه المبادرة تقول في تفاصيلها المنشورة، إن لها هدفاً تجري إليه ولا يغيب عنها، وكانت تقول إن هدفها هو زراعة عشرة مليارات شجرة في طول المملكة وعرضها، وكان هناك هدف آخر أبعد وأسمى، وكان هذا الهدف الآخر يتلخص في أن تؤدي هذه المليارات العشرة من الأشجار إلى مضاعفة المساحة الخضراء في المملكة 12 مرة عنها في الوقت الحالي!
ولم يكن هناك شيء يمكن أن توصف به مبادرة بهذا الحجم، وبهذا السقف في هدفيها، سوى أنها مبادرة شديدة الطموح فيما تريد تحقيقه، وفيما تتحرى الذهاب إليه، عبر طريق رسمته لنفسها منذ إطلاقها وقررت أن تمشي فيه إلى نهايته!
أما المبادرة الأخرى، فلم تكن تنفصل عن الأولى في موضوعها، ولكنها بالطبع تختلف عنها في تفاصيلها، وفي مداها، وفي ملعبها الذي ستتحرك عليه سعياً إلى الهدف الكبير. كانت تحمل شعار «الشرق الأوسط الأخضر»، وكان طموحها بالتالي على قدر مساحتها الممتدة في الإقليم، وكان هذا الطموح يقول إن الهدف هذه المرة هو زراعة خمسين مليار شجرة في المنطقة كلها، وأن ذلك سوف يتم من خلال تجمع إقليمي يضم الرياض مع باقي العواصم الصديقة والحليفة في منطقتنا!
وهكذا، بدا أن الشعار الأعم الذي يمكن القول بأنه يجمع المبادرتين معاً، هو شعار يمكن صياغته في كلمتين اثنتين أيضاً، وشعار كهذا لن يقول بالطبع إلا التالي: ازرع شجرة!
إنه شعار أعم يتميز بأنه يستجيب لطبيعة العصر الذي نعيشه، ويتفاعل مع قضاياه، ويشتبك مع تحدياته، وينخرط في مشكلاته، ويخاطب حقائقه، ويتحدث اللغة التي يتكلمها العالم من حولنا، منذ أن توافق هذا العالم على اتفاقية المناخ الشهيرة في باريس 2015، ولكنه يتميز أيضاً بأنه يستوحي أشياء من بين أجمل ما في تراثنا الذي نعرفه على امتداد قرون من الزمان!
وهل ينسى أحد منا أن الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أوصى قادة الجيوش التي تخرج في سبيل الله، أوصاهم أول ما يوصيهم بألا يقطعوا شجرة في طريقهم؟!
ومن البديهي أن المبادرتين المعلنتين في ربيع السنة لا تتوقفان عند حدود نصح الناس بألا يقطعوا شجرة، فهذا أمر لا جدل حوله ولا شك فيه، وإنما تذهبان إلى مدى أبعد في إضافة المزيد من الأشجار إلى ما هو قائم منها بالفعل، وترغبان في أن يتم ذلك حسب جدول زمني معلن هو الآخر من حيث بدايته، ومن حيث نهايته التي تتحقق عندها الأهداف!
فإذا انتقلنا من الربيع إلى الصيف وجدنا أنفسنا أمام مبادرة أخرى، قد تبدو عند الوهلة الأولى أنها تختلف عن مبادرتي الربيع على مستوى الموضوع، ولكننا بقليل من التأمل الهادئ سنكتشف أن خيطاً خفياً يمتد ليصل ما بين الموضوعين!
كانت مبادرة الصيف تقول إن حكومة خادم الحرمين الشريفين أطلقت أول طائرة من طائرات المسح الجيولوجي في سماء محافظة الداودمي التابعة إدارياً للرياض، وأن الهدف هو مسح 600 ألف كيلومتر مربع من مساحة المملكة؛ تنقيباً عن المعادن في باطن الجزيرة العربية، وأن الهدف الأبعد هو أن تكون الثروة المعدنية في السعودية ثالث ثروة في البلد بعد البترول والكيماويات!
لنا أن نتصور طائرة للمسح الجيولوجي هي الأولى من نوعها، ثم لنا أن نتخيل أن المساحة التي ستطير فوقها تعادل مساحة دولة مثل أفغانستان!
والذين يتابعون برنامج عمل الحكومة في الرياض مع ملف الثروة المعدنية، والتنقيب عنها، واستكشافها، وتصويرها، واستخراجها، ووضعها إلى جوار النفط والكيماويات في وعاء واحد، يعرفون بالضرورة أن إطلاق تلك الطائرة لم يكن سوى مرحلة على الطريق سبقتها مراحل من العمل المتواصل، الذي يؤسس لاقتصاد متنوع لا يقوم على رافد واحد يغذيه!
وقبل ساعات كان ولي العهد قد أطلق حزمة من مبادرات جاءت وكأنها رافعة لشعار «الشرق الأوسط الأخضر»، وكان إطلاق الحزمة على أساس أنها أكبر مبادرة تشجير وتخضير عالمية، وأنها استكمال لما كان من بدايات سبقت في الربيع. جرى ذلك وسط تجمع إقليمي ودولي، وكان حفل الإطلاق نوعاً من التفاعل العملي مع قضية تغيرات المناخ التي أصبحت شاغلاً في كل عاصمة، وتحولت من فكرة كانت تشغل الحكومات وحدها، إلى قضية تؤرق أحاد الناس في كل مكان!
ولو أن أحداً وضع مبادرة المسح الجيولوجي، إلى جوار مبادرات اللون الأخضر ما بين ربيع العام وخريفه، فلن يكون ذلك إلا درجة من درجات حرص صانع القرار في الرياض، على أن يتوازى الاهتمام من جانبه ويتساوى بين الشجر وبين الحجر!
أما أمر البشر فلقد كان سابقاً على الاثنين، وكان ذلك منذ أن أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز - يرحمه الله - مشروع جامعته العلمية، وقد قال عنها وقت إطلاقها، إن فكرتها عاشت معه طويلاً، وإن حلمها ظل يراود عقله ربع قرن من الزمان!
ومن بعد ذلك جاء مسؤول عن التعليم العالي في المملكة فقال، إن المبعوثين السعوديين للدراسة في الخارج، هُم بترول المستقبل في البلاد، وإن الحكومة ترسل كل واحد منهم إلى جامعات مختارة في أنحاء العالم، وإنها تجهز البترول البديل المتمثل في بعثات الخارج، إذا ما جاء يوم تراجع فيه نفط الطبيعة!
ولست أرى مبادرة الشجر منفصلة عن مبادرة مسح الأرض تنقيباً عن المعادن بين الحجر، ولا مبادرة البشر من قبل كانت بعيدة عن الميدان الذي يلتقي فيه جهد الشجر مع جهد الحجر، لا لشيء، إلا لأن الإنسان هو المحور في الحالات الثلاث، وإلا لأن التجربة العملية تتحدث عن أن المساعي في الاتجاهات الثلاثة، كانت ولا تزال يضمها برواز واحد ويجعلها تصب في شاطئ مشترك!