في العشرين من هذا الشهر في كل سنة، تخرج الأمم المتحدة بتقرير على العالم يقول إن هذه الدولة من بين الدول هي الأسعد، وإن تلك الدولة من بين الدول أيضاً هي الأتعس على وجه الأرض!وحديث السعادة في هذا التقرير السنوي العالمي يظل طبعاً عن سكان الدولة، لا عن الدولة ككيان تعرفه العلوم السياسية ويتشكل في مجمله من أرض، ومن شعب يُقيم على الأرض، ثم من حكومة تقوم على شأن الأرض والشعب معاً. ولذلك، فالحديث في التقرير هو عن سكان الدولة، لا عن الدولة في حد ذاتها، لأنه لا توجد في الحقيقة دولة سعيدة، وأخرى تعيسة في المقابل، ولكن يوجد سكان سعداء هنا، ويوجد في مقابلهم سكان آخرون تعساء هناك، وهذا كل ما في الأمر!
السعادة ترتبط في الأساس بالشعور والإحساس على مستوى الأشخاص والأفراد الأحياء، وليس من الممكن أن تحس الدولة ولا أن تشعر!
وقد حار الخبراء المختصون في تعريف معنى السعادة بالضبط، ولا يزالون يجدون الحيرة نفسها كلما تجدد الحديث في الموضوع، ولو أنت رحت تتحرى المعاني التي وصلوا إليها، فالغالب أنك ستجد أن معاني السعادة ككلمة، هي بعدد الخبراء الذين تعرضوا لها وحاولوا فهمها، أو على الأقل حاولوا التفرقة بين الإنسان السعيد وغير السعيد وفق معايير اختاروها وارتاحوا لها!
من ناحيتي كان الموضوع مغرياً بالتفكير فيه، وكنت أتساءل دائماً بيني وبين نفسي عن الشيء الذي إذا امتلكه الشخص صار في عداد السعداء، ثم عن الشيء الذي إذا افتقده الشخص نفسه خرج على الفور من زمرة سعداء العالم!
وكنت أشعر في كل مرة يشغلني فيها مثل هذا الموضوع، بأنه حمّال أوجه كما يُقال في العادة عن القضايا الخلافية التي لا يستقر الناس حولها على حكم ثابت، وفي مرات كنت أراه مطاطياً للغاية، وأنه في ذلك أقرب ما يكون إلى الأخطبوط الذي يصفونه بأنه كلما قطعوا له ذراعاً نبتت له ذراع جديدة. والمعنى أن السعادة لا يمكن الحديث عن معايير جامدة لها، لأن معاييرها تتغير من وقت إلى وقت، وتتبدل من سنة إلى سنة في تقرير الأمم المتحدة نفسه، ولا تستقر لها معايير فضلاً على أن تدوم لها مقاييس!
ولا أعرف لماذا كنت ولا أزال أرى في حديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، تجسيداً للمعنى الأقرب إلى الحقيقة في قضية السعادة وفي تعريفها المراوغ، الذي كلما أمسكت به من ناحية متصوراً أنك قابض عليه بإحكام، تبين لك أنه أفلت من بين يديك من ناحية أخرى!
الحديث النبوي يقول ما معناه أن من بات آمناً في بيته، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فلقد حيزت له الدنيا بحذافيرها.
الحديث يتكلم عن أشياء ثلاثة، بدءاً من الأمن، ومروراً بالصحة، وانتهاءً بطعام الإنسان، ويراها الثلاثة مكمِّلة لإحساس لدى صاحبها، ليس فقط بأنه آمن حيث يقيم، ولا فقط بأن بدنه لا مرض فيه يشكو منه، ولا فقط بأن طعامه بين يديه، وإنما إحساس لديه بأنه يملك الدنيا كلها!
وربما ننتبه في الحديث النبوي إلى أنه وهو يعدِّد النِّعم التي تجعل الإنسان يشعر بأنه يملك الدنيا بما فيها، قد راح يقدم نعمة الأمن على ما سواها، ولا بد أنه تقديم مستحَق كما لا بد أنه تقديم في محله، فليس من الممكن لمن يفتقر إلى الشعور بالأمان في حياته، أو في بلده، أو في وطنه في العموم، أن يستطعم ما عدا الأمن من النعم التي قد يضيق عنها العد والإحصاء!
وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي، كان العالم يتحدث عن الإصدار الجديد من تقرير السعادة الذي يخرج إلى النور مع بدايات الربيع من كل عام، وكانت فنلندا تجلس على رأس الدول السعيدة فيه، بمثل ما كانت أفغانستان تحتل آخر مرتبة في التقرير.
وفي هذا العام كانت هناك مفارقات، وكانت المفارقة الأولى أن السعودية هي الأولى عربياً في التقرير، وكانت المفارقة الثانية أن فنلندا من موضعها على الخريطة في أقصى شرق أوروبا، قد استقرت في مكانها للعام الثاني بوصفها أكثر الدول سعادة في أركان المعمورة، وكانت المفارقة الثالثة أن هذه هي السنة الرابعة لا الثانية لفنلندا على التوالي في رأس تقرير السعادة، وكانت المفارقة الأخيرة أن أفغانستان بقيت في مكانها لم تبرحه، وما بين فنلندا وأفغانستان تحركت دول شتى من مواقعها، فصعدت دول في التقرير وهبطت دول، وقذفت المعايير التي يتخذها التقرير مقياساً بشعوب لا حصر لها إلى أعلى أو إلى أسفل!
يقوم معهد «غالوب» الأميركي الشهير في مجال قياسات الرأي العام بالمهمة في كل سنة، وفي العام الماضي كان قد سأل أفراداً في 156 دولة عن مدى إحساسهم بالسعادة، وفي هذا العام توجه بالسؤال نفسه إلى أشخاص مختارين في 149 دولة.
وليس مفهوماً لماذا هذا العدد من الدول على وجه التحديد في عام مضى، ولماذا عدد آخر أقل في هذه السنة، ولماذا جرى استبعاد سبع دول من قائمة العام الماضي، ولا لماذا لا تضم القائمة كل دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة، والتي تصل إلى 193 دولة؟!
معايير السعادة هذا العام كانت هي: الحرية الشخصية، والدعم الاجتماعي، والناتج المحلي الإجمالي، والقدرة على ملاحقة الفساد. وفي السنة الماضية كانت الحرية في مكانها كمعيار أصيل، وكانت معها معايير أخرى من بينها مستوى الدخل على سبيل المثال.
فإذا سألتني عن السبب الذي يجعل دولة كفنلندا تستحوذ على الموقع الأول لسنوات أربع متتالية فلا تغادره، فسوف أراه في نظام تعليمها الذي تتفوق به على باقي الدول، والذي يجعلها لا يشار إليها في الكثير من المناسبات إلا ويقال إنها الدولة ذات التعليم الأفضل!
التعليم أولاً والتعليم عاشراً، لأنه كفيل بالسعادة بأي المعاني شئت، ولأنه قادر على استحضارها بأي المقاييس أردت، ولأنه هو الذي يمنح معايير هذه السنة، ومعايير السنة الماضية، ومعايير كل سنة مقبلة، ما يجعلها شكلاً يقوم على مضمون!
وإذا كان العنف الذي تعرفه أفغانستان من سنين قد غيّب الأمن عنها، فإن غيابه قد غيّب معه كل ما عداه، ولو حضر لكانت قد حضرت ببعض الجهد كل المعايير.
ولا بد من أن كل مواطن سعودي مدعوٌّ إلى أن يمسك الخشب اتقاءً للحسد كما نقول في أمثالنا العامّية المصرية، فالدولة التي تستطيع أن تكون الأولى عربياً في مقياس السعادة، رغم كل ما نراه حولنا وحولها في المنطقة من أزمات في طول الإقليم وعرضه، هي دولة تظل بالضرورة محسودة في عيون الآخرين، لأنها وسط كل هذا لا تغفل ما يتصل بمواطنيها في كتاب فقه الأولويات!