مطرودتان من القارة السمراء

مطرودتان من القارة السمراء

المغرب اليوم -

مطرودتان من القارة السمراء

سليمان جودة
بقلم - سليمان جودة

كانت القارة السمراء على موعد في هذا الأسبوع مع امرأتين، وكانت المفارقة أن الموعد مع السيدتين كان في توقيت واحد، ورغم أن واحدة منهما جاءت إلى القارة من شمالها، ورغم أن الأخرى جاءت من شرقها، فإن مصيرهما كان واحداً في النهاية.
كانت المرأة الأولى هي السيدة إيستر لنش، أمين عام اتحاد النقابات الأوروبية، وكانت قد ذهبت في زيارة إلى تونس الخضراء، فغادرتها مطرودة بقرار من الرئيس التونسي قيس سعيد. وقد أمهلها الرجل 24 ساعة لتغادر خلالها بلاده، فكان لا بد أن تغادر إلى بلدها، لأن ما لجأ إليه سعيد في تعامله معها، هو مبدأ مستقر في التعامل السياسي بين الدول.
وكان السبب في قرار الإبعاد أنها شاركت في مظاهرة سياسية مع عدد من التونسيين، وأنها رددت معهم شعارات اعتبرتها الحكومة التونسية معادية للبلاد. ولم تجد السيدة نجلاء بودن، رئيسة الحكومة في تونس مفراً من الإعلان عن أن أمين عام اتحاد النقابات الأوروبية: شخص غير مرغوب فيه.
وهذه العبارة الأخيرة مصطلح متعارف عليه بين شتى العواصم، وبالذات على المستوى الدبلوماسي، وهو يمنح أي عاصمة الحق في أن تطلب من أي شخص أجنبي مغادرتها على الفور، وتمارس عواصم العالم هذا الحق مع الدبلوماسيين في العادة، ولا تعني عبارة «على الفور» أن على الدبلوماسي غير المرغوب فيه أن يسافر في نفس اللحظة، ولكنه يحصل في العادة على مهلة زمنية يغادر قبل انتهائها. ومن الواضح أن إيستر لنش دبلوماسية في الأساس، أو أنها شيء من هذا القبيل، وإلا ما كانت الحكومة التونسية قد تصرفت معها بهذه القاعدة الدبلوماسية المستقرة. إن الصيغة التي قيلت لها في طلب المغادرة تتعامل معها معاملة الدبلوماسيين غير المرغوب في بقائهم، ومن الصيغة تشعر بأن السيدة الأوروبية ارتكبت من السلوكيات ما لا يمكن احتماله سياسياً.
وقد جاءها طلب المغادرة بتوجيهات مباشرة من رأس الدولة التونسية في قصر قرطاج، وليس من الحكومة في قصر القصبة، ولا حتى من وزارة الخارجية المختصة في مثل هذه الحالات.
كان هذا ما حدث مع لنش التي عبرت البحر المتوسط من شماله إلى جنوبه، والتي دخلت القارة من شمالها، فكان عليها أن تفعل العكس، وأن تعبر من جنوب المتوسط إلى شماله، وأن تقوم برحلتها العكسية هذه في خلال يوم واحد لا يزيد.
وعلى الجانب الآخر كانت الدبلوماسية الإسرائيلية شارون بارلي، قد جاءت من تل أبيب تحضر أعمال القمة 36 للاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، وكانت القمة قد انعقدت يومي الثامن عشر والتاسع عشر من هذا الشهر، وما كادت أعمالها تبدأ في اليوم الأول، وما كادت بارلي تستقر في مقعدها داخل القاعة التي انعقدت فيها أعمال القمة، حتى جاء مَنِ اصطحبها إلى الخارج، وأفهمها أنها ممنوعة من الحضور، وأن هذا قرار لا نقاش فيه ولا رجعة، فلم تملك سوى أن تغادر.
ولا يُعرف ما هي علاقة الدولة العبرية بقمة يدعو إليها الاتحاد الأفريقي، ولا تحضره بحكم طبائع الأمور إلا الدول الأعضاء فيه، أو الدول غير الأعضاء التي تتلقى دعوة من الاتحاد.
وإذا كان موسى فقي، رئيس المفوضية الأفريقية، قد منح إسرائيل بقرار منفرد منه عضوية مراقب في السنة قبل الماضية، فهذا لا يعطيها حق حضور قمم الاتحاد، ولا يجعلها تجلس إلى جوار أي دولة من دول القارة السمراء سواءً بسواء.
وحتى لو كان قد منحها تلك العضوية في وقتها، بحكم موقعه على رأس المفوضية، فالدول الأفريقية كانت قد علقت قراره في السنة التالية، وكان على الحكومة في تل أبيب أن تحترم قرار التعليق، وأن تفهم «الرسالة» التي كان يحملها، وألا تضع نفسها ومندوبتها في هذا الموقف السياسي شديد الحرج الذي وجدت نفسها فيه، والذي وضعها في موقع لا تحبه ولا ترضاه.
وليس معروفاً على أي قاعدة بالضبط، قرر فقي منح إسرائيل هذه العضوية، ولكن مما حدث في القمة مع الدبلوماسية الإسرائيلية، يتبين لنا أن قراره كان ضد رغبة الغالبية من دول القارة، بل كان ضد رغبة دول القارة كلها، لأننا لم نسمع أن دولة من الدول التي حضرت القمة، قد اعترضت على قرار إخراج بارلي من القاعة، ولا سمعنا أن دولة أفريقية واحدة قد تحفظت على قرار طردها.
إننا لا نعرف أن إسرائيل دولة أفريقية، ولا نعرف عنها أنها متعاطفة مع قضايا القارة، ولا هي أبدت هذا التعاطف في أي يوم.
وما جرى مع لنش في شمال القارة وقع مع بارلي في جنوب شرقها، وكان على الدبلوماسية المطرودة أن تغادر هي الأخرى، وأن تخرج من شرق القارة إلى بلادها، وأن تفعل ذلك أيضاً في خلال يوم واحد؛ لأن أعمال القمة لم يكن يتبقى منها سوى هذا اليوم.
ومن الصعب أن نتصور أن رحلة لنش إلى تونس كانت لمجرد الظهور مع عدد من التونسيين في مناسبة عامة، حتى ولو كانت هذه المناسبة حشداً من نوع ما ظهرت هي فيه، ثم رددت مع الموجودين ما كانوا يرددونه اعتراضاً على سياسات يأخذ بها الرئيس قيس.
ومن الصعب في المقابل أن نتخيل أن بارلي طارت إلى العاصمة الإثيوبية، لمجرد الرغبة في حضور قمة من قمم الاتحاد الأفريقي، ثم ينتهي الأمر معها عند هذا الحد.
هذا صعب في الحالتين، لأن الرحلتين هما في الحقيقة عنوان لموضوع كبير، وهذا الموضوع هو ثروات القارة السمراء، وهو السباق على النفوذ في القارة، وهو الصراع على الوجود فوق أرضها، وهو اكتشافها الذي جاء متأخراً، إلا أنه في النهاية جاء، وهو يتبدى أمامنا في أكثر من صورة، ويتجلى في أكثر من مشهد، وتتجدد الصور والمشاهد على مرأى منا في كل يوم.
وقد مر علينا كثير من الصور والمشاهد المماثلة من قبل، ورأينا فيها كيف بدت أفريقيا وكأنها تظهر على خريطة العالم للمرة الأولى، أو كأن العواصم الطامحة والطامعة في الثروات، إنما تدرك للمرة الأولى أن في الدنيا قارة اسمها أفريقيا.
وقبل أيام كان سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، يطير بين أكثر من دولة من دول القارة، وكان يتنقل من السودان في أقصى الشرق الأفريقي، إلى المغرب في أقصى الغرب، وكان يبدي دهشته وهو في الخرطوم، من أنه وجد في انتظاره ستة مبعوثين غربيين يزورون العاصمة السودانية، وكأنهم يلاحقون بلاده ويطاردونها في كل مكان تذهب إليه.
وفي غمار مشهد عام كهذا، وربما في غباره المتناثر، لا يمكن النظر إلى رحلة لنش إلى تونس إلا على سبيل أنها جزء منه في مجمله، ولا كذلك يمكن النظر إلى رحلة بارلي إلى أديس أبابا إلا في السياق نفسه الذي يرسم صورة لأفريقيا لم نعهدها في كل سياق سابق.
أفريقيا تبدو في غمرة الصراع عليها، وكأنها «الجائزة الكبرى» التي كنا نسمع ونقرأ عنها في أيام ما يسمى «الربيع العربي»، ولكننا في أيام الربيع كنا نتحدث عن دولة هنا أو هناك، بوصفها الجائزة الكبرى في نظر الذين كانوا يشعلون ناره في منطقتنا، أما في حالتنا الراهنة فالجائزة قارة تضم 54 دولة وليست دولة واحدة.
العالم يتكالب على القارة السمراء ويعيد اكتشافها، ولكنها في المقابل لم تعرف بعد كيف تكتشف نفسها، ولو أنها فعلت ذلك ما كان رئيس الاتحاد الأفريقي السابق قد ناشد الرئيس بوتين ألا يقف في طريق تصدير الحبوب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مطرودتان من القارة السمراء مطرودتان من القارة السمراء



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 16:17 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"القوس" في كانون الأول 2019

GMT 21:52 2019 السبت ,03 آب / أغسطس

"الفيل الأزرق 2" يعيد قوة موسم الصيف

GMT 16:19 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

انتبه لمصالحك المهنية جيداً

GMT 14:20 2019 السبت ,29 حزيران / يونيو

طارق مصطفى يساند المنتخب أمام ساحل العاج

GMT 00:51 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

إسعاد يونس تعدّد صفات شريف مدكور برسالة دعم

GMT 09:39 2019 السبت ,06 إبريل / نيسان

أفضل الطرق لتسريحات الشعر الكيرلي في المنزل

GMT 05:32 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

قطر تُقرر مقاطعة نجوم " روتانا " بسبب الأزمة الخليجية

GMT 03:41 2015 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ستيفن كاري يشيد بجهود ليونيل ميسي مع "برشلونة" في الدوري

GMT 01:31 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

أحمد صلاح حسني يشيد بشخصيته في مسلسل "أبواب الشك"

GMT 18:51 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الديكورات الفرنسية الكلاسيكية لمنزل أكثر أناقة

GMT 14:23 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

ميلان الإيطالي يبدأ التفاوض مع لاعب تشيلسي فابريغاس
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib