فى فقه المنعطفات التاريخية

فى فقه المنعطفات التاريخية

المغرب اليوم -

فى فقه المنعطفات التاريخية

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد
كما هى العادة فى كتابة المقالات، أعود إلى ملفاتى السابقة، التى ربما تنير للكاتب معرفة ما وصل إليه من قبل، فربما يمكن البناء عليه، أو هدم ما سبق قوله مادام لم يعد مواكبًا أو مفيدًا لمقتضى الحال. وجدت مقالين فى عنوانهما «فقه الأزمات المركبة»، نُشرا فى 7 إبريل و٢٦ يوليو ٢٠٢٠. كنا فى عام «الكورونا» الأول، وباتت القضية كيف يمكن إدارة أزمات الإرهاب والفيروس والتنمية معًا فى ظل أزمات عالمية لم يكن معروفًا لها نهاية، فلا كان هناك لقاح أو دواء للجائحة، أو كان هناك حل لاقتصاد عالمى ينكمش ويتراجع. القضية كانت كيف نحافظ على المشروع الوطنى المصرى فى التحديث والتقدم فى ظل ظروف حرجة وغير مواتية؛ وكانت النتيجة إيجابية لأننا حافظنا أولًا على الثبات فى إنجاز المشروع؛ وثانيًا لأننا لم نستسلم للظروف، وإنما حاولنا تطويعها للحفاظ على المسيرة حتى وصلنا إلى معدلات للتنمية غير مسبوقة. الحرب الأوكرانية التى جاءت على غير موعد أضافت مركبًا آخر إلى كل ما سبق، وهذه المرة لم تسلم الجَرّة، وجاء جرحها مؤلمًا للعالم كله. لم تكن مصر استثناء لأن معادلة التحديث والتقدم كانت تعنى مزيدًا من الانخراط فى العالم، وعندما تنخرط الأمم فى الدنيا فإنها تصبح أكثر انكشافًا للمتغيرات الجارية فيه، التى قد تكون من الحدة إلى الدرجة التى تؤلم وتوجع دولًا مثلنا لم تخرج بعد من دائرة العالم النامى. ولكن كما يبدو أن الحرب كان لها وجهها الآخر، وهى أنها مثل العناصر المُعَجِّلة فى معادلات الكيمياء تسرع من التغيرات الدولية والعالمية، وتأخذ العالم ونحن أيضًا إلى منعطف جديد سوف يكون من المفيد التعرف عليه مبكرًا علّنا نكون أكثر قدرة على تجنب مخاطره، والاستفادة من فرصه. الحرب هنا كاشفة بأكثر مما يقدر الكثيرون عن القدرات والقوى الحقيقية فى العالم وتوازن القوى بينها؛ وكيف ستجرى إعادة تركيبها مرة أخرى فى نظام جديد.

العودة إلى الملفات مرة أخرى تعطى مقالًا بعنوان «معركة خيرسون»، بتاريخ ١١ سبتمبر ٢٠٢٢، كان فيه التقدير أنها سوف تكون المعركة الفاصلة أو تلك التى يتحقق فيها منعطف جوهرى يؤشر على نتيجة الحرب وما تتركه من توازنات. بتعبيرات الحرب العالمية الثانية، فإنها مثل معركة «العلمين» فى مصر؛ و«ستالينجراد» فى روسيا؛ وفى كلتيهما انكسر التقدم النازى، وتراجع فى الجنوب والشرق، وبعد ذلك كانت النهاية محض تفاصيل مجهدة. فى المقال المذكور كانت هناك أربع معارك فاصلة، وكلها حول مدن «كييف» و«ميروبول» و«خيرسون» و«أوديسا». الحلقة الفاصلة فى المدن الأربع كانت «خيرسون»، التى لو انتصر فيها الروس لباتت أبواب أوديسا مفتوحة، أما إذا كسبها الأوكرانيون فإن بقاء أوكرانيا فى المعادلات الأوروبية لن يكون موضع شك، وثبات قيادتها مستمر، وطريقها إلى البحر الأسود ومنه إلى العالم مفتوح.

النتيجة حتى الآن أن روسيا خسرت معركة «خيرسون»، وهجرت قواتها المدينة إلى شرق نهر «الدنيبر»، ودخلت القوات الأوكرانية إلى المدينة. التفاصيل العسكرية لما جرى ليست موضوعنا الآن؛ ولكن ما يهمنا هو أن هذا التغيير فى الواقع العسكرى ربما يكون بداية منعطف أكثر أهمية فى علاقات القوى الكبرى. ما كان مصاحبًا للحدث كان مجموعة من التطورات التى لا يمكن تجاهلها: أولها أن المتحدث العسكرى الروسى فى بيانه عن الواقع الجديد فى خيرسون صرح بأن انسحاب القوات الروسية كان بأوامر من وزارة الدفاع الروسية، وهى مقولة لم تكن ذائعة من قبل، فلا بوتين كان مذكورًا ولا القيادة العسكرية للعمليات كانت متاحة؛ وما ذكره إضافة لذلك كان مثيرًا للاهتمام، حيث نوه بأن «خيرسون» هى مدينة روسية، وسوف تسترجعها روسيا بالمفاوضات!، وثانيها أن الرئيس بوتين أعلن عن قراره عدم الذهاب إلى بالى فى إندونيسيا لحضور مؤتمر الدول العشرين؛ كما أنه لن يقوم بإلقاء خطاب عبر «الفيديو»، ووصل «لافروف»، وزير الخارجية الروسى، ممثلًا للدولة الروسية، بعد أن مثلها فى مؤتمر المناخ فى شرم الشيخ. وثالثها جرى اجتماع فى تركيا بين رئيسى جهازى المخابرات فى روسيا والولايات المتحدة فى تركيا، كان واحدة من نتائجه استئناف المفاوضات الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية. ورابعها جرى الاتفاق على عقد اجتماع فى بالى الإندونيسية بين الرئيس بايدن الأمريكى، وشاى جين بينج الصينى؛ وما تسرب عن الاجتماع كان أن الطرفين وضعا الخطوط الحمراء للعلاقات بينهما، وقوامها أن هناك «صين» واحدة، وأنه ليس معنى ذلك أن هناك حقًّا للصين فى غزو تايوان، وأن العلاقة بين واشنطن وبكين ستقوم على تنظيم «المنافسة» بينهما، وهو ما وُصف فى الدوائر الأمريكية بأنه عودة إلى «وفاق Detente»، النصف الأول من السبعينيات، والذى قام على إدارة العلاقات التصادمية بين القوتين العظميين فى العالم، بحيث يستبعد الصراع المسلح ويجرى تقنين وتحديد سباق التسلح.

هذه التطورات مجتمعة تضعنا على أول طريق منعطفات مهمة فى السياسة الدولية؛ فهى مع ما أسفر عنه مؤتمر التغيرات المناخية «cop 27» والطفرات التكنولوجية ربما تقودنا إلى عالم آخر. ولكن المهم فى هذه المرحلة هو أن «الليلة لا تزال خضراء» أو فى أولها، ولا تزال هناك حاجة إلى المزيد لكى يخرج ضوء النهار. العالم الآن سوف تكون عليه مراقبة إلى أين تمضى الأحوال فى روسيا، بعد أن تحولت «المغامرة» الروسية إلى «مقامرة» بمستقبل الدولة ونصيبها فى «القطبية» العالمية، التى كان يراها الرئيس بوتين حقًّا مكتسبًا للدولة الروسية تعيدها إلى أيامها السوفيتية والقيصرية. ومن ناحية أخرى فإن العالم سوف ينتظر مدى الحكمة التى سوف تمضى إليها الدولة الأوكرانية وإدارتها لما حققته من نصر، فالحقيقة الجغرافية والتاريخية، فضلًا عن عناصر القوة، لا يمكنها إغفال روسيا فى السياسة الأوروبية، ولا فى التوازن العالمى، الذى جعلها طرفًا فى الحروب النابليونية والحربين العالميتين الأولى والثانية، وطرفًا مهمًّا فى الحرب الباردة. وما لا يمكن تجاهله أيضًا أن النصر الأوكرانى، فضلًا عن الإرادة والشجاعة الأوكرانية، اعتمد على العون العسكرى والتكنولوجى والاستخباراتى الأوروبى والغربى فى العموم، وخاصة من قِبَل حلف الأطلنطى. استمرار الحرب هنا لن تكون له أثمان فادحة على أوكرانيا فحسب، وإنما فى أوروبا والدول الغربية عامة، التى خرجت منها ثروات كبيرة، فضلًا عن استضافة ما يقرب من سبعة ملايين أوكرانى، وكلاهما خلق ضغوطًا اقتصادية وسياسية على المجتمعات والدول الغربية، وباتت تطالب معها أوكرانيا بالمزيد من الحكمة فى التعامل مع مطالبها فى مفاوضات مقبلة.

الخلاصة أن العالم بات على مشارف «إدراك الحدود» بالنسبة لجميع الأطراف، وعندما يحدث هذا الإدراك فإن خطوطًا جديدة للواقع تظهر، وأهمها أنه لا أحد يريد للصراع أن يستمر، ولا فتح جبهات جديدة بات مطلبًا، ليس فقط لأن التكلفة السياسية والاقتصادية باتت عالية، وإنما لأن هناك تحديات لا قِبَل لأحد بها، بعضها يأتى من الفضاء وبعضها الآخر من الأرض.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى فقه المنعطفات التاريخية فى فقه المنعطفات التاريخية



GMT 13:57 2024 الإثنين ,05 آب / أغسطس

محاصر بين جدران اليأس !

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

«مسار إجبارى».. داش وعصام قادمان!!

GMT 10:52 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الفوازير و«أستيكة» التوك توك

GMT 10:49 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الأخلاقى والفنى أمامنا

GMT 10:47 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

ذكرى عودة طابا!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib