أوروبا العلمانية والانزياحات الدينية

أوروبا العلمانية والانزياحات الدينية

المغرب اليوم -

أوروبا العلمانية والانزياحات الدينية

إميل أمين
بقلم : إميل أمين

عرفت أوروبا لا سيما في القرون الوسطى، بكونها قارة ذات جذور دينية إيمانية، بل إن البعض يرى أن هناك فترات زمنية شهدت تعاظما لدور المؤسسات الدينية، في غالبية إن لم يكن في جميع أركان القارة التي كانت فتية ذات مرة، واليوم باتت تعاني من حالة الشتاء الديموغرافي؛ حيث يتراجع عدد السكان بصورة مخيفة.

هل هذا التراجع يأتي على صعيد الأعداد فقط، أو أنه ينسحب على فكرة الإيمان والدين والمعتقد كذلك؟

مثير جدا أمر القارة التي كانت يوما موطن النهضة العلمية والفكرية والروحية حول العالم، ذلك أن التحولات والتبدلات فيها تحدث بصورة مقلقة، وتكاد تنقلب بالكلية من حال إلى حال مغاير.

يدهش المتابع لأوضاع أوروبا التي تقاتل أبناؤها ذات مرة لمدة ثلاثين عاما، بين البروتستانت والكاثوليك، انطلاقا من عصبيات دوغمائية، أن يدرك اليوم حالة الانزياح الديني التي تعتريها، بمعنى تقلص مساحة الروحانيات، وتناقص عدد الأتباع الذين يحرصون على أداء الطقوس الدينية يوما تلو الآخر.

ما الذي تعاني منه أوروبا اليوم، وما تبعاته على التيارات اليمينية التي تلقي باللائمة على مهاجرين مغايرين، آيديولوجيا وعقائديا، الأمر الذي يفتح الأبواب واسعة لفكرة التحولات الكبرى في الداخل الأوروبي، بكل ما تحمله من توجهات صراعية في الحال والاستقبال؟

ربما نجد الجواب لدى الفيلسوف الفرنسي، صاحب النزعة اليسارية الأشهر: «ريجيس دوبرييه»، صاحب المؤلف الشهير: «الأنوار التي تعمي».

ما يدينه دوبرييه في كتابه هذا ليس الأنوار في حد ذاتها، فهي شيء محبوب ومرغوب، وإنما صورة القدسية التي تحوم حول أفكار بعينها، ومنها الإصرار على إجبار العالم برمته على قبول أفكار المثلية، وجعلها شرائع ونواميس لا تقبل الاختلاف من حولها، ومن هنا تتحول الأنوار التي تضيء الطرقات، إلى أحجار ظلامية متكلسة بمرور الزمن.

تبدو أوروبا في معركة حامية الوطيس بين فولتير وروسو، ذلك أن الأخير هو صاحب دعوة للتنوير العميق، بينما الأول، أي فولتير، هو صاحب المقولة الممجوجة عن «خنق آخر سياسي بأمعاء آخر رجل دين»، ولهذا لم يكن غريبا أن يطلق على أتباعه اسم «الفولتيريين ضيقي الأفق»، والويل كل الويل إن كان هؤلاء أصحاب سلطة مدنية.

لم يكن فولتير وحده في واقع الحال، أحد الأسباب التراثية التي قادت للمشهد الغربي الحالي، لا سيما أن لدى الفيلسوف الألماني الشهير، إيمانويل كانط بدوره، ميولا لهذا الاتجاه الشمولي، ومن غير أدنى خوف من استخدام تلك الكلمة شديدة الوقع على النفس.

تحدث كانط ذات مرة قائلا: «عصرنا هو عصر النقد الذاتي، الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء، بما فيه بعض العقائد الدينية ذاتها»، وفات كانط جواب عن سؤال: «هل العقل البشري مطلق أو نسبي، محدود أو سابح في اللانهائيات؟».

الذين لديهم علم من كتاب النصف الثاني من القرن الماضي أوروبيا، يدركون كيف أن الحرب الكونية الثانية، قد خلفت من ورائها العديد من الفلسفات المادية، والحركات والتوجهات الإلحادية والوجودية، وجميعها كانت على النقيض من المؤسسات الدينية العريقة في الداخل الأوروبي.

فقدت نسبة غالبة من الأوروبيين مقدراتهم الدينية والإيمانية، نتيجة القسوة والوحشية اللتين أظهرتهما الحرب، كما أن الفاشية والنازية، قد خلفتا وراءهما حالة من الرفض للأفكار الروحية الممزوجة بالرحمة والعطف، والتسامح والتواد، وحلت توجهات تؤمن بالإنسان وقوته وقدرته، من دون أي رباطات بالعالم الآخر.

لماذا نستحضر هذه القراءة في هذا التوقيت؟

المؤكد أن استطلاع الرأي الذي وصف بالتاريخي والذي قامت به صحيفة «التايمز البريطانية» في نهاية شهر أغسطس (آب)، عن الحالة الدينية في بريطانيا، هو مرد هذه السطور... ما الذي جاء في نتائج هذا الاستطلاع؟

باختصار غير مخل، تبدو هناك تغيرات جذرية في توجهات المسيحيين البريطانيين، ومعها باتت هناك احتمالات لأن توصف المملكة المتحدة بأنها ليست دولة ذات طابع ديني، بل ربما علماني، أو لا أدري.

لم تك نتائج استطلاع التايمز الأخيرة مفاجئة للبريطانيين أنفسهم، فقد أظهرت أرقام التعداد السكاني لعام 2021 أن نسبة الأشخاص الذين عرفوا أنفسهم بأنهم مسيحيون في إنجلترا وويلز، انخفضت إلى أقل من النصف للمرة الأولى، في تاريخ البلاد، وبلغت 46.2 في المائة.

هل تعاني الكنيسة الأنجليكانية، الكنيسة الأم للبلاد، من أزمة هوية دينية؟

ربما الإجابة نجدها في العديد من القضايا التي باتت تشكل قطيعة مع الإيمان التقليدي، ومنها على سبيل المثال رفض الزواج التقليدي، وتفضيل العيش بحرية، وهناك إشكاليات المثلية، ودور المرأة.

ما يحدث في بريطانيا، هو نموذج يمكن القياس عليه في عموم أوروبا، والتحديات واسعة ومتزايدة، ومن هنا تزداد المخاوف من المتشددين الذين يعدون ما يجري نوعا من أنواع تبديل وتعديل هوية أوروبا القديمة، الأمر الذي سيخلق حتما مواجهات ذات طابع عنيف، لا شك في ذلك، في قادم الأيام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوروبا العلمانية والانزياحات الدينية أوروبا العلمانية والانزياحات الدينية



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 15:27 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

هنغاريا تدعم مخطط الحكم الذاتي المغربي لتسوية نزاع الصحراء
المغرب اليوم - هنغاريا تدعم مخطط الحكم الذاتي المغربي لتسوية نزاع الصحراء

GMT 09:19 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن
المغرب اليوم - فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن

GMT 14:44 2024 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

العلماء يكتشفون أصل معظم النيازك التي ضربت الأرض

GMT 05:21 2016 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

أفضل بيوت الشباب والأكثر شعبية في العالم

GMT 11:00 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"السر المعلن"..

GMT 10:52 2023 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

مرسيدس تبدأ تسليم السيارة الأقوى في تاريخها

GMT 22:54 2019 الأربعاء ,13 آذار/ مارس

"فيسبوك" تنفي تعرض الموقع لاختراق

GMT 15:46 2019 الجمعة ,04 كانون الثاني / يناير

فضيحة "شاذ مراكش" تهدّد العناصر الأمنية بإجراءات عقابية

GMT 11:56 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

الحجوي يؤكّد أن تحويل الأندية إلى شركات يتطلب مراحل عدة

GMT 15:09 2018 الإثنين ,24 أيلول / سبتمبر

أحمد عز يواصل تصوير الممر في السويس

GMT 06:39 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

تمتعي بشهر عسل رومانسي ومميز في هاواي

GMT 08:50 2018 الأحد ,11 شباط / فبراير

بيور غراي يعدّ من أفضل المنتجعات حول العالم

GMT 21:34 2017 الثلاثاء ,13 حزيران / يونيو

فريق "وداد تمارة" يتعاقد مع المدرب محمد بوطهير

GMT 02:42 2017 الثلاثاء ,22 آب / أغسطس

قمر في فستان أبيض قصير على "إنستغرام"

GMT 09:35 2023 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

محرك البحث "غوغل" يحتفل بيوم المعلم العالمي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib