القوى النائمة

القوى النائمة!

المغرب اليوم -

القوى النائمة

حسين شبكشي
بقلم : حسين شبكشي

يتفق علماء الاجتماع وخبراء السياسة حينما يقومون بوصف الدولة الحديثة بأنها الكيان الوحيد الذي له حق استخدام العنف، بشكل حصري ومطلق. وطبعاً تسخّر الدول لأجل تفعيل ذلك الأمر مواردها المالية والبشرية بشكل واسع وعريض. وسواء أكان ذلك في أجهزة الشرطة بكافة فروعها وأجهزتها لحماية وصون الجبهة الداخلية، أو في أجهزة الجيش بكافة قطاعاته لأجل حماية الجبهة الخارجية، ويقع كل ذلك تحت شعار الحفاظ على الأمن. وكل هذه الأدوات الغليظة هي ما اتفق على تسميتها دائماً بالقوى الخشنة.
وليست القوى الخشنة هي القوى الوحيدة في ترسانة الدول، ولكن هناك أيضاً قوى لا تقل أهمية في نفوذها وفاعليتها وتأثيرها، تتشكل من أدوات ووسائل غير تقليدية، مثل الفنون بكافة فروعها، كالأفلام والمسرح والتلفزيون والموسيقى والرواية والطهي والأزياء والرياضة والسياحة والثقافة والتراث والتاريخ والحرف، وجميعها عرف بمصطلح القوى الناعمة. والقوى الناعمة شهدت استثماراً واهتماماً هائلاً من دول مختلفة حققت لها عوائد اقتصادية هائلة، ووسعت من دوائر التأثير لها على الساحة الدولية بشكل أكثر تأثيراً وفاعلية.
وأعتقد أنه بالإمكان إضافة نوع ثالث من القوى التي لدى بعض الدول، وهي «القوى النائمة». تلك القوى التي لا تُدرك إلا بتفعيلها تماماً، كما حصل مع الصين ذات يوم.
في نهاية حقبة الأربعينات من القرن الميلادي الماضي، انطلق في الصين ما عرف بالثورة الثقافية، وهي ثورة شيوعية شديدة التطرف، بزعامة الزعيم التاريخي والثوري للصين ماو تسي تونغ، الذي كانت لديه قناعة هائلة ومطلقة أن ثورة الصين ستقلب حال البلاد، وسيتم تصدير التجربة المبهرة إلى سائر الدول المجاورة، وبعد ذلك إلى باقي دول العالم من دون استثناء.
لكن النتيجة الكارثية لتلك الثورة البائسة كانت تدمير الرقعة الزراعية، وتدهوراً كاملاً للقدرات الصناعية وانهياراً كلياً للاقتصاد الصيني.
وعندما توفي ماو تسي تونغ، قام الزعيم الصيني دنج زياو بينغ الذي خلفه بعمل ثوري حقيقي، وذلك حينما قرر أن تقبل هذه الدولة الشيوعية الكبرى العمل بنظام السوق الحر والانفتاح على الرأسمالية بشكل مفاجئ ومذهل، وكان هذا القرار التاريخي هو الذي أوصل الصين اليوم لتكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفي طريقها للوصول إلى المرتبة الأولى. كان هذا القرار بمثابة مكالمة إيقاظ عنيفة أيقظت القوى النائمة للصين، وولّدت التأثير الهائل على الساحة الاقتصادية العالمية.
ولا يقتصر اكتشاف القوى النائمة على دول كبيرة بحجم الصين، فهناك المثل الآخر الذي لا يقل أهمية، والخاص بدولة أفريقية صغيرة بحجم رواندا، تلك الدولة التي شهدت في حقبة الثمانينات من القرن الميلادي الماضي إحدى أسوأ المجازر البشرية، بعد اندلاع حرب أهلية مدمرة بسبب التعصب والعبث القبلي والاقتتال البيني بين قبيلتي التوتسي والهوتو.
وبعد تلك المأساة الوحشية قررت رواندا أن تتبنى الحكم المدني، وأن يكون حكم القانون هو الذي يسري على الجميع، من دون النظر إلى قبيلة أو منطقة، وهذا التحول الهائل كانت نتيجته وصول رواندا اليوم إلى أهم معدلات النمو الاقتصادي في القارة الأفريقية، وجذب الاستثمارات الكبرى من أهم الشركات المتعددة الجنسية، من أمثال شركة فولكس واغن الألمانية، التي أقامت مصنعاً لسياراتها هناك، وشركة ديل لإنتاج الحاسب الآلي، وغيرهما. إنها القوى النائمة بعد إيقاظها.
وأصبحت بالتالي رواندا قصة تروى ومثالاً يحتذى لسائر الدول الأفريقية الأخرى.
وما يحدث في السعودية منذ فترة من الزمان هو مثال آخر على القوى النائمة وتأثيرها، متى ما أوقظت. عندما قررت السعودية بشكل شجاع توديع الخطاب الديني المتطرف، والعمل بقوة على نشر فكر الوسطية والتسامح وقبول الآخر، لم يكن انعكاسه فقط على الداخل المحلي، ولكنه أحدث حراكاً مهماً في كثير من دول العالم الإسلامي، نظراً لمكانة السعودية وثقلها الكبير ورمزية موقعها.
وهذا الحراك الذي بدأته السعودية سيكون جدار صدّ مهماً لمواجهة الأفكار العنيفة والمتطرفة بشكل عملي بعد سنوات طويلة من الاستسلام لها وأمامها. وهذا بحد ذاته سيكون أهم مكالمة إنقاذ عرفتها القوى النائمة.
القوى النائمة هي قوى هائلة كامنة لم يتم توظيفها رغم وجودها. ومتى أدركت الدولة فائدة إيقاظها، ونجحت في ذلك، فإن تبعات القرار عادة ما تكون إيجابية وعظيمة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القوى النائمة القوى النائمة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 08:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
المغرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 15:34 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام
المغرب اليوم - سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:14 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 18:57 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 14:11 2015 السبت ,23 أيار / مايو

العمران تهيئ تجزئة سكنية بدون ترخيص

GMT 17:38 2022 السبت ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه الذهب يسجل رقماً قياسياً لأول مرة في مصر

GMT 15:13 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

تغلبي على الخوف من عيوب جسدك مع ارتداء الحجاب

GMT 15:12 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

عمران فهمي يتوج بدوري بلجيكا للمواي تاي

GMT 08:03 2018 الأربعاء ,14 آذار/ مارس

ما الذي سيقدمه "الأسطورة" في رمضان 2018؟

GMT 20:50 2018 السبت ,24 شباط / فبراير

خفيفي يعترف بصعوبة مواجهة جمعية سلا

GMT 17:06 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

وليد الكرتي جاهز للمشاركة في الديربي البيضاوي

GMT 06:59 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

كليروايت تغزو السجادة الحمراء بتشكيلة متميزة

GMT 17:54 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الفالح يُعلن أهمية استمرار إجراءات خفض إنتاج الخام

GMT 19:57 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

مهرجان أسوان لأفلام المرأة يفتح باب التسجيل بشكل رسمي

GMT 05:45 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

ابتكار روبوت مصغر يتم زراعته في الجسم

GMT 23:06 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

مشروع الوداد يؤخر تعاقده مع غوركوف
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib