الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

المغرب اليوم -

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نديم قطيش
بقلم - نديم قطيش

يحتفل العالم بمرور 300 عام على ميلاد إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني الأبرز وأحد الآباء المؤسسين للحداثة في القرن الثامن عشر، وأعظم المفكرين في تاريخ الفلسفة الغربية.

الاحتفال به اليوم، يبدو بمثابة اللجوء إليه، بحثاً بين طيات أفكاره عن مسارات الرجاء والخلاص. فرعب الحروب الأوروبية عاد يطل برأسه من باب الحرب الروسية - الأوكرانية مهدداً فكرة السلام نفسها التي احتلت موقعاً متقدماً بين هموم كانط الفلسفية. أما الديمقراطية ومؤسساتها فتتداعى كمسار عقلاني لإدارة التوترات المجتمعية، لتضاف إلى الانهيار الخطير الذي تعانيه السلطة الأخلاقية والمعنوية والعملية للمؤسسات الدولية، ويشل قدرتها على وضع الأسس لمعالجات سلمية للنزاعات.

قد تبدو الصلة معقودة إذن، بين أفكار كانط الرئيسية التي تؤكد على الفردية والعقلانية والعالمية والسلام، وبين الحاجة الماسة إليها في ظل توترات عالمنا المعاصر الذي يعاني من تسلط السياسات القائمة على تطرف الهويات الفرعية وتفاقم الفوارق الاقتصادية، والعجز في ميزان الأخلاق قبل غيره من الموازين!

بيد أن الكانطية، بما هي أساساً حفريات فلسفية في نظرية المعرفة والأخلاق والجماليات، تواجه في عوالم الذكاء الاصطناعي، تحديات للأسس التي قامت عليها.

فمؤلف كانط العملاق «نقد العقل المحض»، الذي غيّر مسار الفلسفة الحديثة، وأسس للبحث في حدود العقل البشري والشروط الأساسية للمعرفة والأخلاق وآليات نشوئهما، يبدو اليوم في مواجهة قاسية مع التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي، بشأن انفجار حدود المعرفة والآثار الأخلاقية لإشراك الآلات والخوارزميات في إنتاجها.

تقترح نظرية كانط أن تجربة الإدراك عند الإنسان ترتبط بشكل أساسي بمزيج من نتائج التجارب الحسية، كالنظر والشم واللمس... إلخ، ومخرجات الفكر العقلاني أو الأفكار المجردة. ويعد هذا المزيج المنتج للمعرفة البشرية الحد الفاصل بين آليات الإدراك البشري، والآليات الخاصة بالذكاء الاصطناعي. فالأخيرة تعمل بشكل أساسي من خلال معالجة البيانات الباردة المعزولة عن التجارب الحسية العضوية، أي شيء يشبه «العقل المحض» الذي أمعن كانط في نقده. وعليه يثير هذا الاختلاف أسئلة حول كفاية وطبيعة «الفهم» أو «المعرفة» الناتجين عن الذكاء الاصطناعي، من خلال عمل الخوارزميات المعقدة، من دون سياق حسي وعاطفي.

من الصعب جداً، إذن، لمفاهيم كانط الفلسفية، المتأصلة في فكر القرن الثامن عشر، أن تشكل أساساً لمعالجة التحديات الأخلاقية المعقدة للذكاء الاصطناعي، مثل خصوصية البيانات وعلاقتها بالكرامة الإنسانية للبشر، وتحيز الخوارزميات وتأثيرها على إنتاج المعرفة والقيم، وتسليع السلوك البشري في لعبة التسويق والاستهلاك.

فتركيز كانط على استقلالية البشر والإرادة العقلانية كأسس للفعل الأخلاقي لا يترجم بسهولة إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تفتقر إلى الوعي والإدراك الذاتي، ما يجعل من الصعب تطبيق أطره الأخلاقية مباشرة على الكائنات غير الواعية كالآلات والخوارزميات.

بحسب كانط، تتصرف الكائنات العقلانية وفقاً لمبادئ مشتقة من العقل، لا من الغريزة فقط، وهذا ما يثير أسئلة أساسية حول التصنيف الأخلاقي لسلوك الذكاء الاصطناعي. فهل هذا الذكاء فاعل أخلاقي قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية بناءً على «العقل»؟ وأين تنتهي المسافة بين العقل المنتج للذكاء الاصطناعي وقدرة الذكاء الاصطناعي نفسه على اجتراح «عقل» مستقل عن البشر، لا سيما حين يُبرمَج هذا الذكاء لأداء أفعال تحاكي اتخاذ القرارات الأخلاقية، كالقتل في الحروب كما شهدنا مؤخراً في غزة؟ هل «تدرك» أنظمة الذكاء الاصطناعي حقاً ما يبدو أنها تدركه، أم هي تحاكي المعرفة فقط؟ يستدرج هذا التمييز الأخير أسئلة حاسمة بشأن الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في مجالات حساسة مثل الطب والقانون والحرب وغيرها! ولا يطرح ذلك تحديات حول مدى ملاءمة الوكالة الأخلاقية المعطاة للذكاء الاصطناعي، بل حول إمكانية الإخلال، بأساس الفلسفة الكانطية، أي الاستقلالية البشرية، من خلال اتخاذ الخوارزميات للقرار نيابة عن البشر.

علاوة على ذلك، فإن محور الفلسفة الكانطية المعروف بـ«الضرورة الحتمية»، أي الالتزام الواقع على كل البشر سواسية بأن ما يقومون به يجب أن يكون قابلاً لأن يعمم ويطبق من قبل كل فرد آخر في أي موقف مشابه ومن دون تناقض، يصعب تطبيقه على برمجيات الذكاء الاصطناعي، حيث تتحكم البيانات والخوارزميات في القرارات من دون استناد إلى التفكير الأخلاقي أو القدرة على التأمل القيمي. يبرز هذا المنحى صعوبة دمج أخلاقيات كانط في سياق تكنولوجي يسيطر عليه مزيج الحسابات الموضوعية والمصالح المعروفة سلفاً، بدلاً من الأحكام الأخلاقية المطلقة.

في المقابل يراهن المتفائلون على أن الذكاء البشري واتخاذ القرارات ليسا مجرد عملية تنفيذية لسلسلة معقدة من التعليمات الباردة، على ما هو عليه عمل الذكاء الاصطناعي. فالإدراك البشري ينطوي على التمييز بين الذات وتجاربها، مما يتيح التأمل والاختيار الحقيقيين، على عكس الذكاء الاصطناعي الذي يعالج البيانات من دون هذا الوعي الذاتي. وفقاً لذلك، يرى البعض أنه بينما يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاة بعض جوانب الإدراك البشري، إلا أنه يفتقر إلى القدرة الأساسية للتجربة الواعية والاختيار الحقيقي اللذين يميزان الذكاء البشري.

وعليه لا يبدو لي أن الإطار الفلسفي لإيمانويل كانط، معزول تماماً عن الهموم الأخلاقية التي يطرحها العالم المعاصر. فتأكيده على «الضرورة الحتمية» والالتزام «بالعالمية» كشرط مسبق للحكم على أخلاقيات تطوير الذكاء الاصطناعي، قد يشكل سنداً فلسفياً، لدعاة أن تُصمم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتُنفذ بطرق يمكن قبولها عالمياً، وأن تكون البرمجيات الكامنة خلف تطبيقات الذكاء الاصطناعي عبارة عن «مصادر مفتوحة» تسمح للجميع بفهم البنية التحتية لهذه التقنية وتمكنهم من تعديلها من دون تمييز أو استثناء. المصادر المفتوحة تشجع على التعاون الواسع بين المطورين من خلفيات متنوعة، ما يعزز مبدأ العمل الذي يمكن تطبيقه كقانون عام يقبله الجميع، مما يساعد في إنشاء حلول تقنية تراعي الاعتبارات الأخلاقية بشكل أفضل وأكثر شمولية.

إلى ذلك تظل مبادئ كانط الفلسفية ذات أهمية كبيرة في عصر المعرفة المولدة بالذكاء الاصطناعي، حيث توفر إطاراً أخلاقياً حيوياً لتطوير وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي. فإصراره على معاملة البشر كغايات وليس وسائل قد ينطوي على نقطة توازن استراتيجية ضد النُّهج النفعية المطلقة في الذكاء الاصطناعي، على نحو يدعم ويعزز كرامة الإنسان واستقلاليته، بدلاً من تقويضهما.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 06:38 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة
المغرب اليوم - السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة

GMT 12:48 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الميزان السبت 26-9-2020

GMT 11:52 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

تشكيل الوداد لمواجهة النجم الساحلي

GMT 04:35 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

إليكم أفضل الأماكن في لبنان لهواة رياضة ركوب الشواطيء

GMT 12:34 2019 الخميس ,13 حزيران / يونيو

موزيلا ستطرح نسخة مدفوعة من فايرفوكس

GMT 01:29 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

10 صنادل مميّزة تكمل أناقة الرجل العصري في 2019

GMT 19:33 2019 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يفقد أحد أسلحته أمام بريمن
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib