بريطانيا تنتظر انقلاباً

بريطانيا تنتظر انقلاباً

المغرب اليوم -

بريطانيا تنتظر انقلاباً

عثمان ميرغني
بقلم :عثمان ميرغني

في مقابلة معه أواخر الشهر الماضي قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون عن بوريس جونسون رئيس الوزراء الحالي «إن لديه قدرة على الإفلات من أشياء لا يبدو البشر العاديون قادرين على الإفلات منها». لم تكن تلك إشادة بقدرات جونسون بقدر ما كانت سخرية من الرجل الذي نجح بكثير من الحظ، وقدرة على المناورة، وميل للشعبوية والمزح، وكثيراً ما وصفه الإعلام بـ«المهرج» عندما كان يشغل منصب عمدة لندن.
اليوم يحتاج جونسون إلى كل مواهبه لكي ينجو من تبعات العاصفة السياسية العاتية التي أثارها الكشف عن حفلات جماعية أقيمت بشكل متكرر في مقر رئاسة الوزراء في 10 داونينغ ستريت، أو في مقار وزارات أخرى، في وقت كانت مثل هذه التجمعات محظورة على الناس وفقاً لقرارات الحكومة لمواجهة جائحة «كورونا». فعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية حفلت وسائل الإعلام البريطانية بالكشف عن سلسلة من هذه الحفلات وبحضور رئيس الوزراء بعضها. وزاد الأمر سوءاً أن جونسون حاول النفي أولاً، ثم قدم مبررات غير مقنعة عندما نشرت بعض الصور لهذه التجمعات «الاحتفالية» قائلاً إنها كانت جلسات لمناقشة العمل.
وأمام الضغط الإعلامي والغضب الشعبي المتصاعد اضطر داونينغ ستريت للاعتذار للملكة إليزابيث الثانية عن حفلتين كشف عنهما الإعلام وأقيمتا في مقر رئاسة الحكومة يوم 16 أبريل (نيسان) 2021، عشية جنازة زوجها الأمير فيليب. كما اعتذر جونسون أمام البرلمان عن تجمع آخر بحضوره في حديقة 10 داونينغ ستريت في 20 مايو (أيار) 2020.
وفي الوقت الذي كان الشارع البريطاني ينتظر إعلان نتائج التحقيق الذي قادته السيدة سو غراي، التي تشغل منصباً مهماً في الخدمة المدنية وسبق لها أن قادت تحقيقاً أجبر وزيراً على الاستقالة عام 2017، كشفت قناة «آي تي في» المستقلة أن كاري، زوجة جونسون، ساعدت في تنظيم حفلة حضرها حوالي 30 شخصاً في عيد ميلاده في 19 يونيو (حزيران) 2020، في وقت كان القانون يحظر التجمعات التي تضم أكثر من شخصين في أي مكان في الداخل، ويفرض غرامات على المنتهكين.
وأعلنت شرطة العاصمة أول من أمس أنها بدأت تحقيقاً جنائياً في «الانتهاكات المحتملة» لقواعد الإغلاق والعزل، في داونينغ ستريت ومبان حكومية أخرى في لندن، مما زاد وضع جونسون سوءاً. فحتى قبل ظهور نتائج التحقيقين بدا أن مستقبله السياسي بات على المحك وسط دعوات متزايدة تطالبه بالاستقالة، أو تدعو حزبه لعزله. وواجه رئيس الوزراء هذه الدعوات بمزيج من الاعتذارات الباهتة أحياناً، أو بإنكار الحفلات وتصويرها على أنها كانت تجمعات عمل، أو بمحاولة شراء الوقت بقوله إن الناس يجب أن ينتظروا انتهاء نتائج تحقيق سو غراي قبل الحديث عن أي خطوات أخرى.
هذه اللحظة حلت الآن مع الإعلان عن أن السيدة غراي أكملت تقريرها الذي يوضع على طاولة رئيس الوزراء أولاً قبل إعلانه. فعدد من النواب كانوا قد قالوا إنهم في انتظار التقرير قبل تحديد موقفهم بشأن مستقبل رئيس الوزراء. واستناداً إلى تقارير في الإعلام البريطاني فإن نحو 40 من نواب حزب المحافظين لم ينتظروا التقرير وأرسلوا بالفعل رسائل إلى «لجنة 1922» برئاسة السير غراهام برادي، بسحب ثقتهم بقيادة جونسون.
وحسب لوائح الحزب فإنه إذا تلقى السير غراهام 54 رسالة، أي ما يمثل 15 في المائة من نواب حزب المحافظين في البرلمان، فسوف يتم إجراء تصويت برلماني على الثقة برئيس الوزراء، وإذا خسره جونسون فإن رئاسته للوزراء تكون قد انتهت.
حزب المحافظين لا يعرف الرحمة في حساباته الانتخابية، وقد سبق له أن أجبر مارغريت ثاتشر وتيريزا ماي على التنحي ومغادرة 10 داونينغ ستريت، ولن يتردد في أن يسقي جونسون من هذه الكأس أيضاً إذا شعر بأنه أصبح عبئاً انتخابياً. فجونسون ذاته انتخب زعيماً للحزب وخلفاً لتيريزا ماي، لأن الغالبية في الحزب رأت وقتها أنه الأقدر من بين منافسيه على تحقيق أمرين: إنجاز البريكست، والفوز في الانتخابات العامة وهو ما حدث بالفعل. فقد أخرج جونسون بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي ثم قاد حزبه إلى أكبر فوز انتخابي في نهاية عام 2019 محققاً أكبر أغلبية برلمانية للمحافظين منذ 1987 (أي في عهد ثاتشر).
لكن بعد نحو 900 يوم في رئاسة الحكومة يبدو أن جونسون ضل طريقه وفقد «جاذبيته الانتخابية». وعين الحزب ونوابه الآن على استطلاعات الرأي العام التي نقلت لهم أرقاماً محبطة خلال الأيام الماضية. فاستناداً إلى استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «يوغوف» فإن 62 في المائة من البريطانيين يعتقدون أن جونسون يجب أن يستقيل من منصب رئيس الوزراء، أي بزيادة 6 في المائة عن استطلاع أجري في 11 يناير (كانون الثاني) الجاري. وتردت شعبية رئيس الوزراء بشكل مخيف، إذ إن 78 في المائة من المواطنين باتوا يعتبرون أداءه سيئاً. إلا أن أكثر ما سيقلق الحزب هو الاستطلاع الذي أجرته القناة الرابعة للتلفزيون البريطاني وأوضح أن حزب العمال بات يتقدم على المحافظين بـ11 نقطة في دوائر شمال ووسط إنجلترا، وأن الفارق يرتفع إلى 32 نقطة في لندن، وهو ما يعني أن عدداً كبيراً من نواب المحافظين سيخسرون مقاعدهم في البرلمان إذا أجريت الانتخابات في الوقت الراهن.
لكن مصير جونسون اليوم لن يحدده الناخبون لأنه ليس مطروحاً إجراء انتخابات عامة في ظل سيطرة المحافظين على البرلمان، بل سيحدده نواب حزبه الذين يملكون قرار إجباره على التنحي واختيار بديل له يكمل ما تبقى من فترته. بمعنى آخر يحتاج الأمر إلى «انقلاب حزبي» شبيه بذلك الذي أسقط ثاتشر وتيريزا ماي.
ما هي احتمالات هذا الانقلاب؟
هناك عدة سيناريوهات محتملة. فالحزب قد يجد نفسه مضطراً للتحرك إذا جاءت نتائج التحقيقات دامغة ضد جونسون، وصبت المزيد من الوقود على النيران المشتعلة في الإعلام، وزادت من حدة الغضب في الشارع. لكن الحزب قبل أن يقدم على عزل جونسون سوف يريد أن يطمئن على أن هذا التغيير سيفيده انتخابياً، وأن من سيخلف رئيس الوزراء سيكون قادراً على أن يضاهي جاذبيته الشعبوية التي مكنت الحزب من تحقيق ذلك الانتصار الساحق في عام 2019.
في الوقت الراهن لا يوجد بين المرشحين المحتملين شخص بهذه الجاذبية. فالقائمة المرشحة تضم وزير الخزانة ريشي سوناك باعتباره المرشح الذي يتمتع بمعظم المهارات التي يفتقر إليها جونسون، باستثناء الجاذبية الشعبوية. وهناك أيضاً ليز تراس، وزيرة الخارجية، وجيريمي هنت الذي خسر معركة خلافة تيريزا ماي في 2019 أمام جونسون، وقد يظهر أيضاً مرشحون آخرون، لكن ليس هناك شخص بارز حتى اللحظة لكي يطمئن الحزب. في كل الأحوال فإن أياً من المرشحين البارزين لن يحرق أوراقه ويستعجل في إعلان ترشيحه إلا إذا كان واثقاً أن جونسون سيخسر أي معركة لسحب الثقة منه.
كذلك فإن تولي قيادة الحكومة في هذه المرحلة لن يكون سهلاً بل قد يحرق أصابع من يجلس على الكرسي الساخن بمعنى الكلمة. فبريطانيا لا تزال تحت تأثير تداعيات جائحة رئيس حزب المحافظين البريطاني الجديد «كورونا»، والمزاج العام سيئ في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، وفواتير الوقود، وشبح التضخم.
جونسون راهن دائماً على حظه وقدرته على الإفلات من المشاكل، فهل يقلب الطاولة ويخالف كل التوقعات، فيشتري لنفسه وقتاً إضافياً في مقعد رئيس الوزراء؟
كل المؤشرات تدل على أنه قد لا يستطيع الإفلات هذه المرة، فحتى لو نجح في مقاومة أي انقلاب حزبي الآن، فإنه سيكون اشترى بعض الوقت فقط. فالسكاكين التي خرجت من أغمادها، ستظل مشهرة في انتظار هفوة أخرى من رجل اشتهر بكثرة هفواته، وبخفته السياسية، وتقلباته... وأخيراً بعدم قدرته على مقاومة الحفلات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بريطانيا تنتظر انقلاباً بريطانيا تنتظر انقلاباً



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib