لا بد من التطرف

لا بد من التطرف؟!

المغرب اليوم -

لا بد من التطرف

سوسن الأبطح
بقلم : سوسن الأبطح

المسافة تضيق بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبن اليمينية المتشددة، وثمة من بات، لا يستبعد وصول الأخيرة إلى كرسي الرئاسة الفرنسية، لأسباب عديدة وجيهة، مع أن الفكرة، لم تكن مستساغة، قبل سنوات قليلة فقط.
عندما وصل جان ماري لوبن، زعيم «الجبهة الوطنية الفرنسية» إلى النهائيات الرئاسية في مواجهة جاك شيراك عام 2002، بدا الأمر مذهلاً وغريباً. كان ثمة جزم بأن شيراك سينالها، وأن التطرف لا مكان له في فرنسا، وقد حصل. رفض شيراك حينها بكبريائه المعهودة، حواراً متلفزاً، وجهاً لوجه مع لوبن؛ لأنه يمثل «العنصرية»، و«التطرف» وكره» الأجانب. وثمة من وصف مجرد وصول الرجل المتطرف، إلى النهائيات، بحد ذاته، «فضيحة». ابنة لوبن، مارين، لا يختلف خطابها كثيراً عن خطاب والدها، إلا في ملمسه الخارجي الأنثوي. البرنامج نفسه تقريباً، والغايات ذاتها، والمنطلقات لم تتغير. ومع ذلك ها هي مارين لوبن تصل إلى عتبة الرئاسة للمرة الثانية في مواجهة إيمانويل ماكرون، مع فارق جوهري، هو أنها أصبحت حسب التوقعات، أقرب إلى الإليزيه من أي وقت مضى؛ مما دفع صحيفة «ليبراسيون» لرفع «مانشيت»: «هذه المرة، الوضع خطر جداً».
أن تحصد مارين لوبن الأصوات، ليس مجرد صدفة رياضية. الأمزجة تغيرت، حاجات الناس، ومطالبهم تتزايد، لا حقوق الإنسان، ولا احترام المهاجر، ولا حتى قيم «الثورة الفرنسية»، يمكنها أن تصمد أمام الارتفاع القياسي في سعر البنزين، وغلاء الخبز والزيت، وتكاليف التدفئة، وشح المعاشات التقاعدية، والأخبار الهستيرية عن حتمية، تفاقم الأزمة، إذا ما استمرت العقوبات على روسيا، بسبب الحرب في أوكرانيا. وهو ما ركزت عليه لوبن، في الفترة الأخيرة، مقدمة لناخبيها برنامجاً يعزف على وتر، يومياتهم المضطربة وأمنهم، ويغازلهم بكبح الهجرة، والحد من التقديمات الاجتماعية للوافدين، وحفظ استقلاليتهم الوطنية. ومن لا يصدق أن الحمائية باتت مطلباً شعبياً، يمكن أن يرى هذه المرة بأم العين لوبن تتقدم بفارق خارق، على الحزبين الرئيسيين (الاشتراكي والجمهوري) اللذين حكما فرنسا طوال أربعين سنة، ولا يزال لهما وفرة من رؤساء بلديات ونواب في البرلمان. فهي أمام ماكرون الأوروبي حتى النخاع، تفضل مجرد تحالف مع الدول الأوروبية، يحفظ لكل دولة شيئاً من سيادتها، منتقدة ما أطلقت عليه «دولة فيدرالية عظمى محملة بالآيديولوجيا». حذرت تحليلات سياسية من أن مارين لوبن تقود فرنسا بسياساتها التطرفية إلى «فريكست» على غرار «بريكست» في بريطانيا. لوبن تنتقي من أوروبا ما يناسبها، وترفض ما يزعجها، مثل اتفاقيات التجارة الحرة، والسياسات الاجتماعية، والدفاع، والهجرة. لوبن تقدم برنامجاً غير متسق، ضاربة عرض الحائط بالتعددية الفرنسية، لكن ذلك لا يهم.
محظوظة جداً لوبن هذه المرة. خروج مرشح، يفوقها تطرفاً مثل إيريك زيمور، بجلافته وعنصريته، وفجاجة خطابه، حصد سبعة في المائة من الأصوات، ستصب لصالحها، كان أكبر خدمة لها. بدت المرأة مقارنة بعنجهية زيمور وكأنها قطة وديعة، شديدة الاعتدال والإنسانية. زيمور قفز حتى على الأسماء العربية يريد تغييرها، وكلّف نفسه إيقاف استبدال السكان الأوروبيين بالمسلمين المهاجرين وأحفادهم، ووصف المهاجرين القصّر بأنهم «لصوص» و«قتلة» و«مغتصبون»، وطالب بإعادتهم إلى بلدانهم، حماية للفرنسيين من «غزو مستمر» يستهدفهم وجودياً.
كان لافتاً انقسام الفرنسيين في تصويتهم في الدورة الأولى إلى ثلاث فئات، بحيث صوّت الثلث لليمينية المتطرفة لوبن، وثلث آخر لوسطية إيمانويل ماكرون، والثلث الأخير لليساري الراديكالي ميلانشون، ووزع الفتات على الآخرين. أما المثير، فهو أن ناخبي ميلانشون اليساري، الساخطين على خروج مرشحهم من الحلبة، سيمتنع بعضهم عن التصويت، ويصوت آخرون للوبن، لا حباً بعنصريتها، بل منعاً لوصول ماكرون.
هكذا يبدو، أن عناصر عدة تخدم لوبن التي لطّفت من خطابها الانتخابي، ودافعت عن تقاعد مبكر، ووعدت بالعودة إلى المواطنين في استفتاءات شعبية لاتخاذ قرارات مصيرية، ودعت لمنع الحجاب في الأماكن العامة، وفرض غرامة على من ترتديه تماماً كحزام الأمان.
وربما ما يخدم المرشحة المتطرفة، ليس الاختلافات الجذرية بين برنامجها وما يقدمه ماكرون، وإنما اقتراب ماكرون من طروحاتها، إرضاء للرغبات الشعبية، أكثر من أي وقت مضى، في الوقت الذي بقيت فيه هي صامدة في مواقفها.
فرجل الانفتاح والعولمة، بات مضطراً إلى تشجيع شراء الصناعة الفرنسية والحد من الاستيراد، تماماً مثل لوبن، وعلى عكس ما كنا نرى في سنوات خلت، فإن ماكرون يعد بحزم في التشدد بمنح الجنسية الفرنسية، وطرد المخالفين للقوانين من المهاجرين، وتشجيع الزراعة، والعناية بالقطاع العام بعد أن كان القطاع الخاص سيداً في البرامج السابقة، للمرشحين التقليديين.
فازت بالفعل مارين لوبن، حتى وإن وصل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية مرة ثانية. فازت لأنها نجحت في الحصول على نحو نصف أصوات المقترعين، ولأنها أصبحت قياساً إلى مجنون في التطرف كزيمور، من القوى التقليدية السياسية المقبولة لا المنبوذة كما كان يحدث سابقاً. ونجحت في أن تجمع حتى أصوات قوى اليسار، وإنْ مكرهين، بعد أن كان ينظر إليها كوباء يتوجب ردّه. في الخلاصة، متطرفو الأمس هم أكثر قبولاً اليوم، وقد يضحون مطلباً عزيزاً غداً، حين تصبح الحمائية، في نظر الشعوب المنهكة، واجباً وطنياً، على كل رئيس أو رئيسة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا بد من التطرف لا بد من التطرف



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:50 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود
المغرب اليوم - ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 11:51 2019 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

شهر حزيران تميمة حظ لمواليد برج السرطان

GMT 13:31 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

السفير المغربي سمير الدهر يتعرض إلى السرقة في حي يسيشيكو

GMT 19:54 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

والد حمزة منديل يرفض الرد على اتصالات نجله

GMT 02:43 2015 الإثنين ,14 أيلول / سبتمبر

حلى الزبادي بالأوريو

GMT 08:36 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "تسلا" تبني مصنعًا لإنتاج السيارات الأجنبية في الصين

GMT 08:25 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

نتائج القسم الثاني لكرة القدم بالمغرب

GMT 07:21 2023 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النجمات اللواتي ارتدين البدلة الرسمية هذا العام
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib