أميركا الخائفة

أميركا الخائفة

المغرب اليوم -

أميركا الخائفة

سوسن الأبطح
بقلم : سوسن الأبطح

أكثر من سبب وجيه يجعل سلطات الولايات المتحدة في عداء عميق مع تطبيق «تيك توك». فهو أول تطبيق غير أميركي يكتسح، وتزاحم شعبيته تطبيقاتها التي فتنت الألباب، حتى في عقر دارها. في عام واحد بعد انطلاقته سنة 2017 أصبح التطبيق الصيني، هو الأكثر تنزيلاً من المتاجر الإلكترونية، في العديد من دول العالم. وتمكن في سنواته الخمس الأولى من ضمّ ضعفي عدد المستخدمين الذين احتاجت إلى جذبهم منصات مثل «فيسبوك» و«إنستغرام» وحتى «يوتيوب» أكثر من ثماني سنوات. وأصبح «تيك توك» إدماناً للشباب الصغار، في سن الحلم، بينما تحولت «فيسبوك» إلى منصة تشيخ وهي تضم الأكبر سناً، والأقل حيوية.

تبيح أميركا لنفسها ما تحرّمه على غيرها. فهي تتذرع بأن البيانات التي تجمعها شركة «بيت دانس» المشغلة لـ«تيك توك»، تذهب إلى السلطات الصينية، وهذا ليس بمستغرب، رغم تأكيدات الشركة المشغلة عكس ذلك. وتنسى السلطات الأميركية أنها تستبيح بيانات شركاتها التكنولوجية منذ تأسيسها، إما بالتواطؤ والتنسيق، وإما بقرصنة المعلومات دون التنسيق معها. وهو ما أكدته الشركات نفسها حين طالبت مجتمعة الكونغرس باحترام حرية التعبير والكفّ عن انتهاك حرمة بياناتها، باستخدام برنامج مثل «ماسكيولار» وغيره، يمتص المعلومات عن الشبكات بمنتهى السهولة. والاعتراض على قرصنة البيانات، ليس حرصاً أو كرم أخلاق من «فيسبوك» و«تويتر» و«لينكد إن» وغيرها، فهي تعاونت ولا تزال مع وكالة الأمن القومي الأميركية، بحسب فرانك سكافيدي، المخبر الذي عمل في «إف بي آي» لأكثر من عقدين، وإنما بدأت تفرمل تجاوزاتها، لخشيتها الفضائح، وفقدان ثقة المستخدمين، بعد أن تم تشديد الرقابة عليها في أوروبا ودول في أميركا الجنوبية، وفاحت روائح القرصنة والانتهاكات.
تشدد أميركا على موضوع خوفها من استغلال بيانات مواطنيها، ومخاطر التجسس عليهم ولا تبوح بمخاوفها الكبرى من التأثير الممكن للتطبيق الصيني على آراء مواطنيها وتوجهاتهم، خصوصاً صغار السن. بين خطورة الحظر الكامل الذي يخشى أن يلهب غضب ملايين المستخدمين الشباب للتطبيق ويؤلبهم ضد المشرعين ويؤثر على التصويت لهم في الانتخابات وترك الأمور على غاربها، ثمة حيرة كبيرة وإرباك، ومحاولة نشر أخبار صحافية دائمة حول مساوئ التعامل مع «تيك توك»، وشيطنة الحكومة الصينية والنظام هناك، وأنه يتجسس على تحركات الشخصيات، هذا عدا تخزين بيانات المستخدمين واستغلالها ضدهم من قبل جهة غير ديمقراطية.
التطبيقات الاجتماعية لها سطوة وسلطة، وهي حيث تنتشر تنقل قيم مَن يديرون التطبيق وأفكارهم. هذا ما تفعله يومياً أميركا، وهي تحذف من التعليقات والصور ما لا تراه مناسباً، وهكذا سيفعل الآخرون. فهي التي تحدد من هو الإرهابي، وما هي العبارات الخطيرة، أو الخادشة للحياء، وما هي العبارات التي تبقيها على التطبيقات. رغم أن «تيك توك» مضامينه غير سياسية في الغالب فإن أميركا تعتبر أنه قد يكون منصة لنشر مبادئ لا تتناسب والقيم الغربية وأخلاقياتها.
كانت الصين قبل سنوات قليلة هي التي تحجب «فيسبوك» و«غوغل» وتعتبرهما تهديداً لها ولمواطنيها في عقر دارها، صارت أميركا هي التي تريد أن تمنع منصة «تيك توك» وأخواتها، إذ إنها ليست وحيدة ولا يتيمة ولن تكون الأخيرة صينياً.
المعركة مستمرة، لكن من الصعب تصور أي انتصار حاسم على «تيك توك»، في المدى المنظور أو فرملة جدّية لدوره الحالي. فقد عنونت إحدى المقالات الفرنسية «هل يمكن لأي فنان أن ينجح دون تيك توك؟» والإجابة في النهاية لصالح التطبيق الذي ما أن يحب مستخدموه مقطعاً موسيقياً أو أغنية ويجعلوها تصاحب فيديوهاتهم، حتى تحلّق عالياً على مختلف المنصات الموسيقية مثل «سبوتيفاي» أو «أبل». موسيقى مجهولة، أغنية لشاب مبتدئ، أغنية قديمة غير شهيرة، لا يهم. «تيك توك» قادر على رفع شأن فنان والحط من قدر كاتب، وله سلطة لا تردّ، وهذه السطوة هي التي يُعمل لها حساب.
ففي الفترة الأخيرة أدركت دور النشر والمكتبات ومعها المؤلفون، أهمية أن يروج لمنتج على «تيك توك»، وما يمكن أن يفعله من تحولات ويجلب من شعبية بسرعة هائلة.
وربما أن الفرق الأساسي بين «فيسبوك» و«إنستغرام» وتطبيق مثل «تيك توك»، أن الأولين يضعان المشاهير في المقدمة ويبنيان عليهم، كما يوليان أهمية لعدد المتابعين الذين يصعدان بأحدهم أو ينزلان به إلى الدرك الأسفل، بينما جماهير مستخدمي «تيك توك»، هم الذين يصنعون نجومهم من كتّاب ومطربين وهم الذين يقررون ما هو الكتاب الأهم والأغنية الأجدر بالتداول، وما هو المنتج الذي يجب أن يختفي لأنه لم ينل رضاهم. أقرب مثل على ذلك أغنية الفنان «ليل ناس إكس»، صاحب أغنية «طريق البلدة القديمة»، التي اشتهرت ووصلت إلى المركز البلاتيني 15 مرة على حسب قوائم جمعية صناعة التسجيلات في أميركا. والمغني مجرد شاب صغير غير معروف، اشترى اللحن الإيقاعي بمبلغ زهيد، وسجل الأغنية بمعونة «ساوند كلاود» على الإنترنت، في لحظة ضجر كبير، وحققت نجاحاً مجنوناً.
مع «تيك توك» لا أحد يعرف لماذا صعد نجم «ليل ناس» ولماذا أخرجت أغنية قديمة لماسكد وولف ونفض عنها الغبار فجأة.
هو منطق الخوارزميات والأمزجة حين يلتقيان... وما هي إلا البداية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا الخائفة أميركا الخائفة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib