الزمن العربي التائه

الزمن العربي التائه

المغرب اليوم -

الزمن العربي التائه

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

في البداية أرى أننا في حاجة إلى مراجعة الكثير من التعبيرات والمفاهيم بل الكلمات، أولها كلمة «العربي» وقد وضعتها وسط هذا العنوان. فالكلمة ليست تعبيراً جغرافياً مثل «الأوروبي» التي تُستعمل جغرافياً حتى ببُعدها السياسي والحضاري. الاتحاد الأوروبي هو اتحاد كونفيدرالي بين دولٍ لكلٍّ منها قوميتها وهويتها بل لغتها وإن جمعتهم جغرافياً قارة واحدة. هناك الكثير مما يجمع الأمم الأوروبية، لكن يبقى الإيطالي يختلف عن الفرنسي والألماني واليوناني. المملكة البريطانية المتحدة تجمع قوميات مختلفة، فالمواطن «الأسكوتلندي» ينفعل ويغضب إذا وصفته بـ«الإنجليزي»، وهو يعتز بهويته الأسكوتلندية مثلما يعتز «الآيرلندي»، لكن الجميع يقبلون تعبير «البريطاني»، وهو تعبير عن كيان سياسي لا يبتلع هويات المكونات المشاركة فيه. في حقبة من الزمن حدثت حساسية بين تعبيري «الشعب» و«الأمة». نقول «الشعب» الفلاني ولا نطلق لفظ «الأمة» إلا على الأمة العربية كلها. لكن لو راجعنا اليوم الكثير من المفاهيم والتعبيرات بموضوعية وواقعية لَوجدنا أن جُلّها يعتريه الخلل ويقود إلى مغالطة صوتية لا تَعبرُ إلى مساحة الحقيقة والواقع. ما الذي يجمع اليوم بين الشعوب التي تُوصف بالعربية؛ اللغة أم التاريخ والدين أم الامتداد الجغرافي؟ لا نتحدث عن الشعوب التي تفصلها المسافات الطويلة بعضها عن بعض، بل حتى الشعوب المتجاورة ولها حدود مشتركة طويلة كانت أو قصيرة. هناك من يطلق تعبير «الشعوب الناطقة بالعربية»، وحتى لو قبلنا جدلاً بهذا المصطلح، فهل هناك اليوم لغة واحدة يستطيع بها مواطنون عاديون التفاهم فيما بينهم؟ هناك اللغة الثالثة وهي لغة الإعلام التي يتواصل بها المتعلمون والمثقفون نعم، لكن هل اللغة تضم كل من يتحدث بها في هوية واحدة؟ مثلاً الأفريقي الذي يتحدث الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو البرتغالية هل توحّده هذه اللغة أو تلك مع مَن يتكلمها في كل البلدان في هوية واحدة؟
تَغيَّرت المفاهيم والمضامين كثيراً بعد قيام الدولة الحديثة. المشترك بين الدول هو ما يجمعها في منظومة واحدة فيدرالية أو كونفيدرالية. أوروبا التي شهدت دولها حروباً طويلة وقصيرة، تعلمت من معاناتها القاسية من تلك الحروب الدامية درساً وهو إما الوحدة وإما الحرب، لكن الخيط العقلاني والموضوعي الذي نظم تلك الدول في كيان واحد هو التماثل السياسي والاقتصادي والثقافي. دول الاتحاد الأوروبي يجمعها النظام الديمقراطي وسيادة القانون والحرية الفردية والرأسمالية المنضبطة وقوة منظمات المجتمع المدني وأهمها النقابات، والعامل الأساسي هي المواطنة والمساواة أمام القانون. الولايات المتحدة الأميركية، وترجمتها الصحيحة هي «الدول المتحدة الأميركية»، تضم أقواماً من كل بقاع العالم يتحدثون لغات مختلفة وينتمون إلى أعراق ليس هناك ما يربطها، ولكن قوة الدولة القائمة على المواطنة والحقوق المتساوية التي كرّسها الدستور هي التي جعلت من تلك الدول المتحدة كياناً صلباً وقوياً.
في المنطقة العربية، الدولة مولود حديث جاء إلى الدنيا بعد مرحلة الاستعمار. وأغلب البلدان كانت تغرق في ظلام الأمية والفقر والتخلف. تُطلق كلمة «الدولة» على أغلبها كاسم لأن لها عَلماً ونشيداً وشخصاً على رأسها. لكنّ الدولة بالمعنى المؤسسي لم تقم كما حدث في أوروبا وأميركا واليابان وغيرها. مرّت مرحلة قفزت فيها العواطف على حقائق الواقع، وظنَّ البعض أن الأحلام يمكن أن تكون لها أقدام تمشي وأيدٍ تفعل، ورفعت شعارات تحلِّق في سماء الرغبات الشعرية والأغاني المجنزرة، ولكن الزمان ألقمها الهزائم والتخلف والتشرذم العنيف. اليوم طَفَت الطوائف الدينية والعرقية في أكثر من بلاد، لهذه رئاسة الدولة ولتلك رئاسة الحكومة وللأخرى رئاسة البرلمان... وهذا الاختراع يُلغي مفهوم الدولة الحقيقية التي تكون فيها المناصب بالقدرات لا بالهويات العرقية أو الدينية. صارت الأرض في الدول المتخيَّلة مفتوحة للتبعية لدول قريبة وبعيدة، وصارت الوحدة الوطنية في البلد الواحد حلماً يبتعد مع الأيام. العداء بين بعض الأقطار العربية يرتفع ويتسع أكثر مما هو مع إسرائيل وغيرها. الحروب العربية مع إسرائيل دامت أياماً، لكنّ الحروب الأهلية وغير الأهلية بين العرب دامت لسنوات، وبعد نهايتها بقيت الدماء التي سالت تروي بذور العداء التي لا تتوقف عن النمو. إسرائيل في أرضها الصغيرة وشعبها القليل، طوّرت قدراتها العلمية والتقنية والعسكرية والزراعية مما جعلها دولة تتفوق على العرب في كل هذه المجالات، لأنها أسّست كياناً اقتحم العصر وفرض نفسه في الإقليم والعالم.
المشكلة المزمنة التي تزرع الهشاشة في أغلب الكيانات العربية هي غياب المؤسسة في جسم ما تسمى دولة وحضور السلطة الحاكمة. الخلاف بين الكيانات السياسية أمر طبيعي بحكم المصالح، لكن تلك الخلافات تُحل على قاعدة التنازلات المتبادلة وبما لا يُلحق ضرراً بأي طرف. الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لها حضور دائم، لكن يتم الوصول إلى تفاهم يحقق مصالح الجميع ولا يهزّ العلاقات. حجم الدولة وملاءتها المالية وقدراتها العسكرية لا تسبب خللاً في الثوابت. لوكسمبورغ ومالطة الدولتان الصغيرتان لهما صوت مثلما هو للدول الأكبر منهما.
العالم لا يتوقف عن التغير والتطور، والمراجعة للمفاهيم والمصالح وحتى المصطلحات، وما يمكن تحقيقه على الأرض بين الدول هو القاعدة الحاكمة للعلاقات. بعد مسيرة طويلة من التجارب في العلاقات البينية بين الدول العربية، لا مناص من تقييم موضوعي لما كان، واستخلاص العبر، وقراءة تجارب الآخرين والتحرك نحو ما يمكن تحقيقه دون الرفع العاطفي لسقف الأماني التائهة والذي تكون نتائجه سلبية يؤدي إلى القطيعة أو حتى الصدام. لا بد من الاقتناع بأننا في زمن كل ما فيه جديد يفرض التفكير بعقل جديد للخروج من تيه زمن رحل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزمن العربي التائه الزمن العربي التائه



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib