المؤامرة الشيفرة المفتوحة

المؤامرة... الشيفرة المفتوحة

المغرب اليوم -

المؤامرة الشيفرة المفتوحة

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

من أكثر الكلمات استعمالاً في السرد السياسي العربي، كلمة (المؤامرة). كلمة واحدة تختزل نتائج أفعال فرد أو جماعة من دون النظر إلى أسبابها، أو المحركات التي قادت إليها. لا يقتصر ذلك على العرب وحدهم، بل نجده في تاريخ غيرهم من البشر. صارت هذه الكلمة (المؤامرة) الحاضرة دائماً في تفسير كل انكسار أو فشل في مبادرات الأفراد والجماعات بكل المجالات. التلميذ الذي يرسب في الامتحان، يبرر ذلك بموقف شخصي معادٍ من أستاذه له بسبب خصام حدث بينهما، والتلميذ يعلم جيداً أنه لم يجتهد في دراسته. الهزائم التي تحلُّ بالجيوش، والدمار الاقتصادي والكوارث السياسية، والتخلف العلمي والاجتماعي والثقافي وغيرها، تُلقى على ظهر عنقاء حاضرة دائماً، هي المؤامرة. السحر والخيانة والتضليل وغيرها هي أيضاً، حبال يفتلها الفشل والجهل ليعلق فوقها قميص ما نسجته أصابع التخلف وغياب التدبير والتفكير. الهزائم العسكرية، لا يُسأل عنها متخذ القرار السياسي، الذي غابت عنه الرؤية التحليلية للأوضاع السياسية المحلية والدولية أو الجنرال الذي قصَّر في بناء جيشه على أسس عسكرية متطورة ومؤهلة لخوض المعارك، وهو يجهل القدرات العسكرية الحقيقية الشاملة للعدو. جلد الذات، تعبير ساد ولا يزال. أي نقد يوجه لحلقة من الهزائم والانكسارات التي شهدها التاريخ العربي في سنواته القديمة والحديثة، تُلقى في وجهه أحجار تلك العبارة، جلد الذات. المؤامرة الخيالية التي لا يفتر فعلها في العقل السياسي العربي هي مؤامرة «سايكس بيكو» التي قسمت البلاد العربية إلى دول قزمية مفتعلة. خريطة رسمتها بريطانيا وفرنسا في خضم الحرب العالمية الأولى. هل هذا جهل أو تجاهل متعمد للحقائق التي كانت شاخصة على الأرض آنذاك؟ لم يكن هناك أي كيان عربي مستقل. بلدان شمال أفريقيا كانت كلها تحت الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني والإيطالي، أما بلدان الخليج العربي، فكانت تحت الحماية البريطانية، وهذه المناطق كلها لم تطلها خريطة اتفاقية «سايكس بيكو» قط. منطقتا الشام والعراق هما فقط اللتان وضعتا فوق تلك الخريطة (المؤامرة)، لأنهما كانتا تحت الحكم العثماني، وكانت إيالات أي ولايات تابعة للآستانة العثمانية التي كانت في حرب مع بريطانيا وفرنسا. في الحروب العالمية، يتقاسم المنتصرون إرث القوى المهزومة، وهو ما حدث في تفاهمات بوتسدام ويالطا في الحرب العالمية الثانية بين قادة قوات الحلفاء. في خضم تلك الحرب العالمية الثانية، جرت أحاديث بين السياسيين العرب، إذ رأى بعضهم الاصطفاف مع قوة المحور الذي تقوده ألمانيا وإيطاليا، ففي حالة انتصاره سيسقط وعد بلفور الذي يؤسس لدولة يهودية في فلسطين، وكان يقود هذا التوجه الزعيم الفلسطيني الشيخ أمين الحسيني الذي زار الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر وأعلن تأييده له وتحالفه معه. السياسي العراقي المخضرم نوري السعيد ردَّ على الداعين للتحالف مع المحور بالقول؛ وماذا سيكون مصير ليبيا التي تحتلها إيطاليا إذا انتصر المحور؟ ما زالت نتوءات الحربين العالميتين الأولى والثانية، لهما وجود فاعل في جغرافية التفكير السياسي العربي، من دون تحسس التضاريس السياسية والعسكرية المحلية والدولية التي تشكلت فيها تلك الصيرورات. وعد بلفور كان بياناً معلناً ولم يكن سرياً، وقبله طالب ثيودور هرتزل اليهودي بالصوت والقلم عن وطن قومي لليهود في فلسطين، وبدأت الهجرات اليهودية لفلسطين. ماذا كانت الخطط العربية لمواجهة الإعلان البريطاني ومشروع هرتزل؟ هبَّت ثورات سياسية ومسلحة فلسطينية، لكنها لم تستطع إيقاف المشروع الصهيوني الذي عبأ اليهود في كل العالم لتنفيذ ذلك المخطط. في سنة 1947 صدر قرار الأمم المتحدة رقم 181 بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب وإقامة دولتين لهما. رفض العرب القرار وأعلنت دول عربية الحرب لإبطال القرار، وكانت النتيجة حصول اليهود على أراضٍ أكثر من التي أعطاها لهم قرار الأمم المتحدة. القدس التي لم تزل القداحة التي تذكي نار المواجهة إلى اليوم، وضعتها الأمم المتحدة تحت إدارة دولية، ضاع الجزء الغربي منها في تلك الحرب واستولت عليه الدولة اليهودية الوليدة. عندما اقترح ساسة إسرائيليون على ديفيد بن غوريون، احتلال الجزء الشرقي من القدس التي تضم ما يعتبره اليهود قلب أرض الميعاد، اعترض بن غوريون على ذلك، مبرراً موقفه بأن تلك الخطوة ستدفع القوى السياسية الدولية الفاعلة، إلى الإصرار على العودة إلى نصوص قرار التقسيم رقم 181، ووضع كل القدس تحت الإدارة الدولية. هزمت الجيوش العربية وذهب السياسيون إلى الهدنة، التي عُرفت بالخط الأخضر. أطلق العرب إلى اليوم على كل تلك الأحداث كلمة واحدة هي: المؤامرة التي قادت إلى النكبة، من دون التحليل العميق والواسع والموضوعي لكل تفاصيل المسارات الدولية والإقليمية التي ولدت النتائج الختامية من رحم تلك السنوات. (المؤامرة) هي الكلمة السحرية التي تصب الزيت فوق ماء بحيرة كل ما حدث، لتقينا عناء التحليل والدرس والتفكير.
حرب يونيو (حزيران) سنة 1967 لم تكن نتاج مواجهة مسلحة بين طرفين عسكريين عربي وإسرائيلي، بل كانت نتاج أميَّة سياسية وعسكرية وإدارية عربية. الأصوات الأعلى التي قدحت شراراتها في القرار العربي، كانت الأناشيد والأغاني والخطب والمزاج الرغبوي الملتهب. في خمسة أيام حلّت الكارثة الغريبة العجيبة. هزيمة منكرة، أُلقيت في فم حقائقها كلمتان، النكسة و(المؤامرة). مَن الذي انتكس، ومَن تآمر على مَن؟ هل هناك أسوأ من أن يتآمر الإنسان على نفسه؟ عندما زار الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الأردن سنة 1965 وألقى خطاباً دعا فيه إلى العودة إلى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين رقم 181 على مبدأ خذ وطالب، اتُّهم بالترويج لمؤامرة صهيونية إمبريالية.
في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي، النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، بسبب رفض مسؤولين قبول شكواه باستهداف مصدر رزقه كبائع متجول على عربة بسيطة تحمل الخضراوات. مات محمد واشتعلت الثورة في كل أنحاء تونس ضد النظام. وانتهت برحيل الرئيس زين العابدين بن علي. وانطلق على أثرها، ما عرف بالربيع العربي. مرة أخرى ترفرف العنقاء التي لا تغيب، (المؤامرة) الإمبريالية الكونية. هل باع الشاب الفقير محمد البوعزيزي، جسده وحياته لمخابرات خارجية ليقدح نار ثورة في تونس لتعبر حدودها إلى دول عربية أخرى؟
كلمة تختزل كل الإخفاقات والانكسارات. شن صدام حسين الحرب على إيران - مؤامرة - وغزوه للكويت أيضاً، قبلها إعدامه لرفاقه قادة حزب البعث بقاعة الخلد.
لقد عرفنا عدونا الأزلي المعلن ولم يعد شيفرة مقفلة، وهو (المؤامرة)، فمتى نعلن الحرب على هذا العدو؟
قال الشاعر ناصح الدين الأندلسي:
شاور سواك إذا نابتك نائبةٌ يوما
وإن كنتَ من أهل المشوراتِ
فالعينُ تُلقي كفاحاً مما نأى ودنا
ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المؤامرة الشيفرة المفتوحة المؤامرة الشيفرة المفتوحة



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib