أنجيلا ميركل ملاكٌ بعضلات العقل والهدوء

أنجيلا ميركل ملاكٌ بعضلات العقل والهدوء

المغرب اليوم -

أنجيلا ميركل ملاكٌ بعضلات العقل والهدوء

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

غادرت سيدة القرن الحادي والعشرين أنجيلا ميركل كرسي السلطة، لكنها لم تغادر رحاب ألمانيا الاتحادية وأوروبا التي تعجُّ بالخلافات والموجات الشعبوية بل العالم كله.الزمن الذي صعدت فيه ميركل إلى سدة قيادة بلادها غير الذي نعيشه اليوم. أنجيلا ميركل لها من اسمها معنى ومن طفولتها وتكوينها العلمي ونمو شبابها ملامح ظلَّت ترافقها دون توقف.والدها القسيس البروتستانتي، كانت خياراته مشحونة بلاهوت المغامرة القدرية. نشأ في الجزء الغربي من ألمانيا واختار الحياة في الجزء الشرقي الشيوعي الذي لا دين فيه، والأمن يسيطر على كل أنفاس الحياة. كانت أمامه وأمام ابنته أكثر من فرصة للعيش في الجزء الغربي من الوطن المجزأ، لكنهما فضَّلا العيش في الشرق الأقل تقدماً وحرية.

أنجيلا الملاك أخذت من زوجها الأول، ميركل اسمه، واحتفظت به حتى بعد انفصالهما، هل لأن في هذا الاسم معنى شدها إليه، المعجزة وهي الملاك؟ اجتمعت فيهما قوتا القلب والعقل. في أوروبا كانت أسماء القادة عناوين لمراحل كبيرة وخطيرة، تنقلت بين الدم والحلم، الحرب والتقدم، الفرقة والاتحاد. نابليون بونابرت وأدولف هتلر وونستون تشرشل وشارل ديغول وجوزيف ستالين وغيرهم. المرأة عموماً لم يكن لها حضور في سطور سِفر أوروبا الكبير. كانت دون مكان في مضمار السياسة الصاخب، إلى أن برزت مارغريت تاتشر التي وُصفت بالحديدية، وهزَّت الكثير من الثوابت في أركان المجتمع البريطاني المحافظ. كانت هي صافرة بداية في مسيرة أوروبية جديدة.

كُتب الكثير عن مارغريت تاتشر مثلما كُتب عن أنديرا غاندي سيدة الهند التي حملت اسم حكيم الهند ورمز القوة الإنسانية التي تلتحف برداء الزهد وبقوة اللا سلاح. أنديرا ومارغريت دخلتا في حروب داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية وعسكرية. مارغريت تاتشر خاضت حرب الفوكلاند، وأنديرا حاربت في معركة الانفصال الباكستاني. ثالثتهما أنجيلا ميركل التي كانت الضلع النسائي الزعامي المثلث المختلف عن سابقيه، فهي لم تحارب بالمدافع والطائرات، إنما خاضت معارك من إبداع عقلٍ صقله العلم وملأه الإيمان بعظمة الإنسان، فكانت سياستها القيادية تتحرك بعضلات العقل الروحي.

عندما كان اللواء محمد نجيب يودّع الملك فاروق بعد إطاحته على يد ضباط الجيش، قال الملك المغادر للواء القادم: ليس من السهل حكم مصر. فهل من السهل حكم ألمانيا التي دمرها هتلر وقسمها الحلفاء المنتصرون، وصار الجدار الذي يفصل جزأيها؟ حائط النار في حرب لا تفقد سخونتها وإن كان عنوانها بارداً. ألمانيا موطن العقل والعضل. منها كسر مارتن لوثر هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، وأسس لمذهب الاحتجاج المسيحي الذي صار منهجاً عقلياً، وأنجبت جهابذة الفلسفة من هيغل إلى ماركس وكانط ونيتشه وحنة أرندت وغيرهم، وبسمارك الموحِّد، وهتلر الذي أدمى العالم ودمّره... هل ينقاذ هذا الكيان الجبار لسيدة قادمة من شرق الوطن الذي خضع لقوة آيديولوجية قاهرة تحكم بالتنصت على أنفاس البشر وتعد الرؤوس مجردَ آنية يُصبُّ فيها سائل الأطروحات الشيوعية ويؤمَّم فيها كل شيء، المال والعقول؟

بعد انهيار الجدار الفاصل بين شطري ألمانيا سنة 1989 انضمت أنجيلا ميركل الباحثة في الفيزياء والكيمياء إلى حزب التجديد الديمقراطي الذي تأسس في برلين الشرقية، بعد خروج السوفيات، وضمّت قيادته قساوسة بروتستانت، ولكن تبين أن قائد الحزب كان ضابطاً في جهاز الأمن الشيوعي «ستازي»، وبعد ذلك انضم هذا الحزب الصغير إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي يتزعمه هيلموت كول. من هناك بدأ الملاك المعجزة رحلة الإقلاع. عندما منحها كول وزارة المرأة والشباب، بدأت النميمة السياسية التي لا تخلو من السخرية في أجهزة الإعلام وعلى أفواه السياسيين تحاصرها. امرأة شابة قادمة من الشرق -المتخلف- بملابسها العادية ومظهرها المتواضع، وسلوكها الذي يوحي بالبساطة وتصرفاتها العفوية، إضافةً إلى النظرة العامة إلى المرأة من دونية خصوصاً في المحفل السياسي. كل ذلك رسم لها صورة سلبية بين السياسيين وتسربت إلى الرأي العام. درجات سلم الصعود السياسي بدت أمام الكثيرين أنها عالية جداً على السيدة الشرقية البسيطة. المفاجأة كانت أكبر من كل التوقعات ومسحت ما نفخته النميمة السياسية من غبار حولها، فقد صارت أنجيلا زعيمة للحزب الاتحادي الديمقراطي المسيحي، وفي سنة 2005 حصل حزبها على الترتيب الأول في الانتخابات البرلمانية، وإن لم يفز بالأغلبية التي تمكّنه من تشكيل الحكومة الاتحادية منفرداً.

بدأت معركة السيدة الملاك، متعددة المحاور والجبهات. شخصيتها كانت مستهدفة بأكثر من سلاح، وبعدما استطاعت فرض نفسها سياسياً بوقوفها على رأس قيادة الحزب الكبير، بدأت الملحمة السياسية الحقيقية. هي ليست السيدة الحديدية مثل مارغريت تاتشر، بل البروتستانتية المسلحة بقوة العقل. تشكيل الحكومة الائتلافية في كل الأنظمة البرلمانية يحتاج إلى مفاوضات لها تقنية خاصة، ويمكن القول إنها معركة انتخابية أخرى بأوراق مختلفة. الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة جيرهارد شرودر، كان العدو الذي ما من صداقته بدٌّ، وذاك هو النكدُ الأكبر. في أول مناظرة تلفزيونية بينه وبين ميركل، تعمّد الاستخفاف بها على الهواء وشكّك في قدراتها القيادية. لم تردّ عليه بانفعال وواجهته بهدوء عجيب. كسبت معركتها معه بقوة العقل المدجج بنسيم روحي يملأ كيانها وهو الهدوء، وصعدت إلى قمة القيادة السياسية المأتلفة.

واجهت تحديات محلية وأوروبية ودولية بذات القوة. العلاقات الأوروبية بين دول الاتحاد هزَّتها موجة شعبوية. أميركا دونالد ترمب الحليف الأول لألمانيا لم تكن بنعومة الماضي، والمهاجرون الذين اندفعوا نحو ألمانيا خصوصاً السوريين، وأزمة اليونان المالية، وقضية التغير المناخي، والعلاقة مع روسيا... كل ذلك كان كومة من ملفات حارقة عالجتها ميركل بأسلوب فيه من الإبداع ما أضاف لقوة العقل. الهدوء سلاح صامت له قدرة خاصة على مواجهة جحافل المشكلات.

قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، إن ميركل تتمتع بسلطة الهدوء. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي عمل ضابطاً في جهاز «كي جي بي» السرّي الروسي بألمانيا الشرقية، كان مطّلعاً على الملف الشخصي لأنجيلا ميركل، وقرأ فيه أنها تخاف الكلاب، وعند استقباله لها أدخل إلى صالون الاجتماع كلبه الأسود الضخم ليرعبها، لكنها لبست درع الهدوء وأبطلت سلاح ترهيب بوتين. ميركل يصدق عليها قول الشاعر أبو الطيب المتنبي:
ولو كان النساءُ كمن فقدنا

لفُضِّلتِ النساءُ على الرجالِ

وما الثأنيثُ لاسم الشمسِ عيبٌ

ولا التذكيرُ فخرُ للهلالِ

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنجيلا ميركل ملاكٌ بعضلات العقل والهدوء أنجيلا ميركل ملاكٌ بعضلات العقل والهدوء



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 10:08 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

3 لاعبين مغاربة في قائمة المرشحين لجوائز الأفضل لعام 2024
المغرب اليوم - 3 لاعبين مغاربة في قائمة المرشحين لجوائز الأفضل لعام 2024

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib