حروب تتدافع في زمن ملغوم

حروب تتدافع في زمن ملغوم

المغرب اليوم -

حروب تتدافع في زمن ملغوم

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

لا أحد يستطيع اليوم أن يرسم مستقبل سنواتنا المقبلة. عنف الناس والطبيعة يغشى كل القارات من دون استثناء. حروب أهلية، وحروب دولية، ومعاناة بشرية يستوي فيها الغني والفقير. الحرب الروسية في أوكرانيا، كانت لسان اللهب الذي طاف على الكرة الأرضية، ومدَّ دخانه جوعاً وبرداً على أطراف الأرض. أكبر حرب يتابعها العالم منذ أن صارت وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، هي الحاسة الطاغية التي تصنع وعي واهتمام البشر. حجم الدمار والضحايا، والمعاناة من الظلام والبرد والتهجير، كأنها كتائب الاستطلاع الأولى التي تنذر بالقادم الرهيب. ارتفاع صوت التهديد باستخدام السلاح النووي، هل هو صافرة الإنذار الأولى قبل الانفجار الكوني الرهيب؟ الغاز والنفط والحبوب والزيوت النباتية والسماد، ارتفاع الأسعار والتضخم والبطالة، حروب دخلت البيوت وطالت بطون البشر.
كل الحروب الكبرى التي شهدتها البشرية عبر التاريخ، كانت لها مقدمات، بها مشتركات وإن اختلفت القوى التي تحاربت فيها، والدوافع التي حركتها. الحرب الكبرى التي سميت فيما بعد بالحرب العالمية الأولى، كانت المولود المتفجر لزمن اتسع فيه الخوف بين القوى الكبرى. إمبراطوريات طالها الوهن، وأخرى ترى غيرها طريدة تركض وراءها. الإمبراطوريات الكبيرة؛ النمساوية المجرية، والقيصرية الروسية، والعثمانية، لحقها تصلب شرايينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكانت بريطانيا وفرنسا ومن بعدهما الولايات المتحدة، ترى أن عواصف عالمية تهب لتحريك مركب الزمن بما يخدم تطلعاتها. انتهت الحرب الكبرى ببروز عالم جديد. انهارت الإمبراطورية النمساوية المجرية والعثمانية، وهزمت ألمانيا، وروسيا القيصرية صارت في زمن جديد بنظام غير مسبوق وهو الشيوعية الأممية، وخرجت إيطاليا التي كان يفترض أنها من المنتصرين، خرجت شبه كسيحة اقتصادياً وعسكرياً، فكانت السيولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي ولدت بينيتو موسوليني على رأس حركته الفاشية ليستولي على المملكة الإيطالية المعاقة. ألمانيا المهزومة والرازحة تحت عقوبات ثقيلة، هللت لطاغية آخر هو أدولف هتلر يقود حزبه النازي. فرَّت من أزمتها الاقتصادية، إلى الظلم والظلام والموت والدمار.
الأزمة المالية التي صعقت الولايات المتحدة الأميركية سنة 1929، وصل وباؤها إلى كل الدنيا، وكانت أوروبا من أكبر المصابين. ميدان حرب عالمية امتد ينتظر القادمين المسلحين، الذين بدأت السنوات تحركهم بسرعة متزايدة.
اليوم ونحن في عام جديد يحمل طبولاً تضربها رؤوس في الشرق والغرب، وتحفها نوازل طبيعية مرعبة. من جفاف وفيضانات ورعب مناخي جعل من الأرض كرة فاقت حرارتها قدرات الترمومترات على قياس درجاتها.
عالم يتقاسمه العنف. حروب أهلية، ومختنقات اقتصادية، وتحركات عسكرية تنذر بالويل والثبور. حرب روسيا على أوكرانيا حرب شديدة السخونة مع الغرب الأوروبي والأميركي. لا يمر يوم إلا وتعلن الولايات المتحدة عن تقديم المزيد من السلاح والأموال إلى أوكرانيا. القتلى من الجانب الروسي يتزايد عددهم كل يوم، والأوكرانيون رغم معاناتهم من الدمار شبه الشامل ما زالوا يصعّدون مساحة وعنف مواجهتهم للعملاق العسكري الروسي. الصين الكون البعيد والقادم بقوة إلى هذا الزمن، تساهم في تفاصيل تكوينه. قوة اقتصادية صاعدة وعسكرية ضاربة، تخوض حربها مع الجميع بتكتيك مبتكر. حرب بلا سلاح أو جنود. تتحرك سفنها البحرية في بحر الصين، وتحلق طائراتها على حافة جزيرة تايوان، لتقول إنها لن تقبل بانسلاخ تايوان عن الوطن الأم. الولايات المتحدة الأميركية ترد على التحرك الصيني بلغة الإشارة المجنزرة. الصين يدها على كتف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعيناها تنظران بحذر محسوب إلى القوى الأخرى الفاعلة. اليابان التي عاشت عقوداً في خدرها الاقتصادي الناعم الكبير، دخلت محفل التسلح وتطوير قدراتها العسكرية، والجميع يدرك أن ذلك ليس سوى استجابة لطلب مباشر من الولايات المتحدة. في شرقنا الأوسط، الذي صار شرخاً أوسطاً. حروب أهلية في بقع حساسة. في ليبيا وسوريا والعراق واليمن. تتغير الحكومات الإسرائيلية ولكنها تزداد انزياحاً نحو التطرق اليميني.
بنيامين نتنياهو الذي جعل من التهديد الإيراني سلماً يرتقي به في كل مرة إلى كرسي رئاسة الحكومة، سيبدأ العد التنازلي للقيام بعمل عسكري ضد إيران. هو يرى أن البقرة الإيرانية تدر حليبها ضعفاً، وسيمد يده العسكرية للضغط على ضرعها. إيران تعيش منذ شهور ثلاثة في خضم حرب اجتماعية حقيقية، قُتل فيها أكثر من خمسمائة شخص، وغصت السجون بالمعتقلات، وأحكام الإعدام على الرجال والنساء صارت وجبات يومية. الصدام الإيراني الإسرائيلي سيكون له صدى متفجر في سوريا ولبنان والعراق وحتى اليمن. تركيا تخوض حرباً ضد الأكراد على جبهة تمتد من سوريا إلى العراق، ولا يغيب التوتر بينها وبين اليونان.
في القارة الأفريقية يختلط الإرهاب بالجوع والبطالة والتدخلات الخارجية، أما طوفان الهجرة نحو دول الشمال فلا يتوقف.
الأرض حبلى بزمن متفجر، متى يبدأ طلق الولادة؟ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو من يقف إلى جانب السرير الأبيض الذي تتمَّدد فوقه الأوقات الحبلى. هو ليس ذلك الشاب اليوغوسلافي الغر المتشدد الذي أشعل الحرب الكبرى الأولى، ولكنه الجنرال الروسي الذي لم يخلع رداءه الأحمر السوفياتي، وما زال مسكوناً بعظمتي روسيا القيصرية والسوفياتية. تراجعه في أوكرانيا يعني بالنسبة له انحناء روسيا أمام الزمن الغربي بذراعيه الأوروبية والأميركية.
أوروبا غير الموحدة في قراءة خطوط خارطة هذا الزمن المتفجر، تتفق على البحث عن باب تخرج منه بأقل الأضرار، سياسيوها يدركون خطورة هذا الوضع الدولي الذي يزداد سخونة كل يوم، وهي في تماس جغرافي وبشري مع أوكرانيا وروسيا، وأي غبار نووي ينطلق من روسيا سيدخل بيوتها، ويزيد الأزمات الاقتصادية طوفاناً وليس مجرد بلَّة. أوروبا هي المراقب الأول لحركة الرئيس الروسي حول السرير الأبيض للزمن المنتفخ.
نتابع ما تقول الصين، ونراقب ما تفعل. كلاهما، القول والفعل، يذكرنا بقول الشاعر المتنبي، فيلسوف كل الأزمان:
مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حروب تتدافع في زمن ملغوم حروب تتدافع في زمن ملغوم



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 11:33 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
المغرب اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib