العولمة البشرية المتحركة

العولمة البشرية المتحركة

المغرب اليوم -

العولمة البشرية المتحركة

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

العولمة كلمة اقتحمت الدنيا، منذ قرون بإيقاع غاب عنه الهدوء والسلام في أغلب حلقاته ودوراته. شعوب تحركت عابرة للأرض والبحار والقارات. الحروب كانت سمة من سمات الحياة. الاستعمار الذي سيطرت عبره أمم قوية على أخرى، شكل تكوين العالم لعصور طويلة، وفرض ديانات وثقافات وسلوكاً، على الشعوب المستعمَرة. بعد بداية عصر النهضة في أوروبا، زالت القيود التي فرضتها المعتقدات والأفكار القديمة على الشعوب. انطلقت الأفكار وبدأت حقبة الفلسفة والتنوير والنهوض. العلوم الطبيعية والتقنية وانطلاق عصر الآلة، كلها ولدت من رحم حرية العقل. منذ اختراع وسائل المواصلات والاتصالات الجديدة. بدأ زمن العولمة. صار البشر يشتركون في المعرفة بقدر كبير، ويتحركون بسرعة لم تعرفها الدنيا في آلاف السنين الغابرة. منذ بداية القرن العشرين، ولدت دنيا العالم الجديد. الطيران والتلفون ثم الراديو والتلفزيون، إلى تقنية الفضاء ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. كل ذلك جعل البشرية تعيش عالماً، تلاشت فيه الحدود الجغرافية وحتى العقدية والثقافية والعرقية والمعرفية. من الهوموسابينس، الإنسان العاقل، إلى إنسان العولمة، عبرت البشرية قروناً طويلة من المعاناة والحروب والجهل والعداوات الدموية. الولايات المتحدة الأميركية، آخر الكيانات المكتشفة أضافت عالماً جديداً إلى العالم القديم. توجه إليها الملايين من كل بلدان العالم، وتأسست فيها مفاهيم جديدة للهوية بعد استقلالها عن بريطانيا. قامت دولة جديدة بدستور مبتكر، حضرت فيه حزمة القيم التي أنجبتها الثورة الفرنسية. وحققت وحدتها بحرب أهلية عنيفة. استمرت التفرقة العنصرية ردحاً من الزمن وعانى فيها ذوو الأصول الأفريقية من الدونية والاستعباد. في ستينات القرن الماضي، ألغيت التفرقة العنصرية وبدأ عصر أميركي بل عالمي جديد.

شهد العالم حربين عالميتين، رسمتا خرائط جديدة للعالم، وقامت أنظمة فاشية ونازية عنصرية ونظام شيوعي ديكتاتوري، ثم بدأت حقبة الاستقلال للدول التي كانت تحت ربقة الاستعمار الأوروبي. دول أوروبية كثيرة عاش فيها الملايين من الشعوب التي كانت مستعمَرة لها، وحمل هؤلاء معهم معتقداتهم الدينية وثقافاتهم وسلوكهم. الولايات المتحدة الأميركية، شهدت تدفقاً لملايين المهاجرين من كل قارات العالم، وبخاصة من بلدان أميركا اللاتينية. في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، أصبحت القارة الأوروبية قبلة للمهاجرين من أفريقيا وآسيا، وفي العقدين الأخيرين، تدافع المهاجرون من أفريقيا والبلاد العربية وآسيا عبر البحر الأبيض المتوسط، إلى بلدان أوروبا الغربية. صارت قضية المهاجرين تهزّ الكثير من الدول الأوروبية. التطرف والإرهاب والتأثير السلبي في سوق العمل، وأزمات مزمنة تجثم على كاهل الحكومات الأوروبية. حوادث عدة شهدتها بعض الدول الأوروبية، مثل حادثة «شارلي إبدو»، التي قتل فيها عشرون شخصاً في باريس، وكذلك حوادث مماثلة في دول أوروبية أخرى، طرحت أسئلة عن خطر المهاجرين في هذه الدول، وبخاصة المسلمون. اندماج المهاجرين المسلمين في المجتمعات الغربية ذات السلوك الاجتماعي، والمنظومات القيمية المختلفة، طرح سؤال الاندماج في هذه المجتمعات. في أوروبا اختلف المشهد من دولة إلى أخرى، ففي بريطانيا وهولندا وألمانيا، وكذلك في كندا ونيوزيلندا وأستراليا، تحقق قدر كبير من اندماج القادمين في هذه المجتمعات، بينما كان الأمر أكثر تعقيداً في فرنسا. فرنسا تبنت منذ مطلع القرن الماضي المبادئ العلمانية، وفُصل الدين عن السياسة، بل وحتى عن الحياة الاجتماعية، وعليه لم يعد من المقبول، حمل ما يشير إلى هوية المواطن الدينية أو العرقية. مشكلة أخرى مضافة، وهي تكتل السكان الذين ينتمون إلى عرق أو دين معين، في مناطق على أطراف المدن، ويمارسون طقوسهم وعاداتهم التي حملوها معهم من بلدانهم الأصلية، ويتصاهرون في ما بينهم. غابت عملية الاندماج في الكثير من المجتمعات، وقام في بعضها «غيتوهات» اجتماعية ودينية، ساد فيها الفقر والتطرف والبطالة وحتى الأمية. في المقابل نشأت عنصرية من نوع جديد، مارسها بعض السكان الأصليين على القادمين الجدد. كل ذلك أعاق عملية الاندماج الكامل، والاستيعاب الاجتماعي والثقافي.

في الولايات المتحدة، تحقق الاندماج بين شرائح المجتمع المختلفة، ونشأ مجتمع معولم، فكل السكان تقريباً هم من القادمين من خارج البلاد الأميركية، واللغة الإنجليزية هي لغة العولمة، وفرص العمل والتعليم متاحة للجميع إلى حد كبير. ولا أعتقد أن هناك بلداً في العالم ليس لديه مهاجرون في الولايات المتحدة. ووصلت شخصيات من أصول آسيوية وأفريقية ولاتينية إلى مراتب عليا في السياسة والإدارة والإعلام والاقتصاد وغيرها.

المجتمعات الأوروبية تعاني من تراجع نسبة المواليد، مما يخلق حاجة متزايدة لليد العاملة، وذلك يفتح الأبواب للمهاجرين للدخول في سوق العمل. اللجوء السياسي، واتفاقية الهجرة التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1951 ضمنا حقوقاً واسعة للمهاجرين، وهي ملزمة لجميع الدول الموقعة عليها. اليوم يعيش العالم كله حالة عولمة بشرية، يتحرك فيها ملايين البشر رغم وجود سياسات صارمة لتقييد طوفان الهجرة غير النظامية. الفرق الرياضية التي تشد إليها مليارات البشر في المباريات الدولية، تعلن تشكيلاتها عن واقع العولمة التي تعم العالم. فرق أوروبية أبطالها من أصول غير بيضاء، ولا تتوقف أجورهم عن الارتفاع بصورة خيالية. السياحة صارت من الأسواق التي تلغي الحدود بين الناس، ومصدراً اقتصادياً معتبراً للدول، ومن مظاهر العولمة البشرية. وسائل التواصل الاجتماعي الحاضرة في كل مناكب الأرض، تساهم بقوة في عولمة المزاج البشري، وبخاصة بين الشباب.

حراك الإنسانية الثقافي والعلمي والتقني والفني والرياضي، يزيل المسافات بين البشر، ويساهم في توسيع دائرة التواصل بين الأمم.

كانت الحروب عبر العصور الطويلة، ساخنة وباردة، فكيف ستكون العولمة البشرية التي فرضت نفسها الآن على الدنيا؟.

الذكاء الاصطناعي، قوة تقنية تبشر بعالم جديد، يعبئ فيه الإنسان عقله إلى مدى غير مسبوق، ويبدع قوة لا حدود لها، تكبح أضرار ما ألحقه الناس بالطبيعة، وينتج قوة مضافة إلى قدرات الإنتاج، ويضيف عضلات سحرية إلى الكائن البشري. الذكاء الاصطناعي، سيؤسس لعصره الذي سيلد عالماً آخر، كل ما فيه جديد.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العولمة البشرية المتحركة العولمة البشرية المتحركة



GMT 22:20 2024 الأربعاء ,11 أيلول / سبتمبر

تلك الأيام بين أسامة وصدام

GMT 16:34 2024 السبت ,24 آب / أغسطس

زمن فلسطين المتحرك

GMT 19:43 2023 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

«البحر الأحمر.. الجونة»

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib