عبد الباري عطوان
مع بَدء الموجة الثانية من انتِشار فيروس كورونا، ووصول أعداد المُصابين إلى حواليّ 46 مليون مُصاب على مُستوى العالم، وتجاوز عدد الوفيّات المِليون ورُبع المِليون، تعيش البشريّة حالةً من عدم اليقين مصحوبةً بنظرةٍ تشاؤميّةٍ للمُستقبل، الأمر لذي يُفسِح مجالًا كبيرًا لاتّساع دائرة أنصار نظريّة المُؤامرة، وتوزيع الاتّهامات شِمالًا ويمينًا، ابتداءً من الصين، ومُرورًا بأمريكا، وانتهاءً بالحُكومة العالميّة المُصغّرة التي تحكم العالم وتضم عددًا من رجال الأعمال على رأسهم بيل غيتس، المِلياردير صاحب شركة “ميكروسوفت” العِملاقة، والمُضارب الماليّ الأشهر جورج سويرس.
مُعظم الإجراءات الوقائيّة التي جرى تطبيقها في المرحلة الأولى سقطت وثَبُت فشلها، بما في ذلك نظريّة “مناعة القطيع” التي طبّقتها بعض الدول مِثل بريطانيا والسويد، في ظِلّ دراسات علميّة جديدة تُؤكّد أنّ المناعة التي يكتسبها النّاجون أو المُتعافون من هذا الفيروس لا تزيد عن بضعة أسابيع أو شهرين على وجه التّحديد، وإنّ احتِمالات الإصابة بالفيروس للمرّة الثّانية، أو الثّالثة ما زالت قائمةً.
كُل التوقّعات التي تحدّثت عن احتمال اختِراع لقاح فاعلٍ لمُواجهة هذا الفيروس قبل نِهاية هذا العام “انتكست” وثَبُت عدم دقّتها، وأكثر التوقّعات تفاؤلًا في الوقتِ الرّاهن تُؤكّد أنّه لن يتم إنتاج أيّ لقاح جديد قبل الرّبيع المُقبل في أحسن الأحوال.
***
لا أحد يعرف على وجّه الدقّة من أين جاء هذا الفيروس “الأُممي”، فالرئيس ترامب يقول أنّه جرى تصنيعه، ومن ثمّ إطلاقه في مختبر في مدينة يوهان الصينيّة، ويرد الدكتور يجان زاهو نائب رئيس إدارة المعلومات بوزارة الخارجيّة الصينيّة هذه التّهمة إلى الولايات المتحدة التي اخترعت الفيروس وصدّرته إلى الصين عبر مجموعة من العسكريين شاركوا في مُسابقةٍ عسكريّةٍ أُقيمَت في يوهان في تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي.
النّظريّة التآمريّة المُنتشرة حاليًّا مِثل النّار في الهشيم، ويتزايد أعداد المُؤمنين فيها بأرقامٍ قياسيّةٍ في أوروبا وأمريكا، وتَضُم مشاهير وعُلماء، تقول إنّ “حُكومة مُصغّرة” سريّة تحكم العالم حاليًّا، وتُسيطِر على اقتِصاده ونظامه المصرفي، وحتى منظّمة الصحّة العالميّة، ومُعظم أنظمة الحُكم في العالم، ومن أبرز أعضائها بيل غيتس، وجورج سويرس، وأنّ هذه الحُكومة تُريد التخلّص من رُبع سكّان العالم لأنّ الكرة الأرضيّة باتت أكثر ازدحامًا ولم تَعُد قادرةً على توفير الطّعام للجميع، وباعتبار هؤلاء غير مُنتجين، ويُشكّلون عِبئًا على البشريّة.
ويضرب قادة المظاهرات الاحتجاجيّة التي تُمثّل هذه الحركة الجديدة الرّافضة لهذه الحُكومة ومُخطّطاتها الجهنميّة، بأنّ العالم واجه فيروسات “مُصنّعة” مِثل الإيبولا (إفريقيا)، وانفلونزا الخنازير والبقر (أوروبا)، ولكن هذه الفيروسات المُشابهة لفيروس كورونا، ومن نفس فصيلته، ظلّت محصورةً في مناطق المنشأ، ولم تنتشر على النّطاق الدّولي مثلما هو حادِثٌ حاليًّا.
ويُضيف هؤلاء أن بيل غيتس الذي نفى جميع التّهم، استثمر 20 مِليار دولار من أجل توفير اللّقاح، الجديد الذي سيقضي على 15 بالمِئة من الذي سيتعاطونه، وأنّ هذه الحُكومة المُصغّرة التي ستزيد قراراتها الأغنياء غنى والفُقراء فَقرًا، تعمل على إصدار تشريعات حُكوميّة مُلزمة، تسمح لشركات تكنولوجيا كُبرى مِثل ميكروسوفت بزرع شريحة إلكترونيّة تحت جلد المُواطنين تتحكّم بكُل تطوّراتهم الصحيّة، وتُراقِب جميع تحرّكاتهم، وربّما التخلّص منهم بطريقةٍ أو بأُخرى إذا لَزِمَ الأمر من قبل الأخّ “الأكبر”.
شركة “الفيسبوك” تقول إنّها أزالت 7 ملايين منشورًا في الأسابيع الماضية لأنصار النظريّة التآمريّة، وتَعكِف حاليًّا على دراسة حذف 90 مِليون أخرى، ولكن هذه المنشورات تتوالد بسُرعةٍ حتى أنّ لويس هاملتون الفائز بسباق “فورميولا وان” عدّة مرّات ويصل عدد مُتابعيه إلى 18 مليون مُتابع على الانستغرام فقط، نشر بعض هذه المنشورات، واضطرّ إلى شطبها لاحقًا بسبب ضُغوط “عُليا”.
جوفان بايفورد مُؤلّف كتاب “نظريّة المُؤامرة.. مقدّمة ناقدة” قال في تصريحٍ لصحيفة “إندبندنت” البريطانيّة إنّ أعداد المُؤمنين بهذه النُظريّة تتزايد بسُرعةٍ قياسيّةٍ في زمنِ الكورونا بسبب حالة الفوضى الرّاهنة، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى.
نكتب هذه المقالة في وقتٍ تقف فيه القارّة الأوروبيّة على أبواب حالة إغلاق كامل بسبب وصول عدد الإصابات فيها إلى 20 مِليون إصابة، أيّ نِصف المُصابين في العالم، (45 مليون نسمة)، أمّا عدد الوفيّات فبلغ 276 ألف حالةً حتى الآن، مُقارنةً بـ230 ألف حالةً مُماثلةٍ في أمريكا وحدَها.
***
لا نعتقد بأنّنا سننضمّ إلى المُظاهرات الصّاخبة للمُؤمنين بنظريّة المُؤامرة التي ستجري في ميدان الطّرف الآخر وسط لندن، الذين ينفون أصلًا وجود هذا الفيروس ويُعارضون الإغلاق ولبس الكِمامات، ولكنّنا لا نَستبعِد هذه النظريّة كُلِّيًّا، بالنّظر إلى الانهِيارات الاقتصاديّة المُتسارعة في مُعظم أنحاء العالم، ويظَل السّؤال المطروح بقوّةٍ مُجدّدًا هو عن الدّولة التي صنّعت هذا الوباء، فهل هي الصين مثلما يُؤكّد ترامب، أم أمريكا مثلما تقول الصين؟ وكم سنحتاج من الوقتِ حتى نَجِد إجابةً حاسِمةً على هذا السّؤال؟
نُرجّح الثّانية، أيّ أمريكا، ففي ظِل قِيادة ترامب ومُسلسل أكاذيبه الطّويل، وحالة الدّمار وانعِدام الثّقة، وكثرة المُؤامرات والمُبالغة في تطبيق العُقوبات، لا شَيء مُستَبعد.. واللُه أعلم.