من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي

من «الويمبي» إلى «كوستا»... ومن علوان إلى العاصي

المغرب اليوم -

من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي

بقلم : عريب الرنتاوي

من بين مقاهي شارع الحمرا الكثيرة، والموزعة على الطوائف والتيارات السياسية والفكرية والأجيال المتعاقبة، سيدخل اثنان منها التاريخ من بوابتين مختلفتين: مقهى الويمبي الذي سجلت على مقاعده سطور أول عملية فدائية للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 ... ومقهى “كوستا” الذي كان على موعد مع عملية إرهابية مجرمة، كان يمكن أن تُمزق أحشاء الشارع الشهير، وأن تُزهق أرواح العشرات من المواطنين، وأن تُطيح بمناخات التفاؤل التي أعقبت وصول الجنرال ميشيل عون إلى قصر بعبدا وسعد الدين الحريري إلى السراي الحكومية.

خالد علوان، منفذ عملية “الويمبي” الذي استعار مسدساً لأحد قادة الحزب القومي الاجتماعي السوري (عبد الله سعادة) ليستهدف برصاصاته ضباط وجنود الاحتلال الذين آثروا الاسترخاء والتمطي في واحد من أشهر مقاهي بيروت في تلك الحقبة ... موقعاً “الدورية” المترجلة بين قتيل وجريح ... خالد علوان لاذ بالفرار لمواصلة عملياته في بيروت قبل أن يستشهد بـ “نيران صديقة” أو غادرة بالأحرى، وهو قام بفعلته البطولية منفرداً، وعلى عاتقه، فاستحق أن يسمى “أسداً منفرداً”، إذ ما هي إلا أسابيع قليلة، حتى وجدت إسرائيل نفسها مرغمة على الانسحاب من ثاني عاصمة عربية يجري احتلالها.

خالد علوان، امتشق السلاح لقتال المحتلين والغزاة، لم يضرب خبط عشواء، ولم يكن “انتحارياً”، كان مقاتلاً شجاعاً، أطلق النار من مسافة صفرية على أعداء بلاده، اختار هدفه بدقة، ابتسم للشبان والصبايا في المقهى المكتظ، وارتشف قليلاً من القهوة من كوب لأحد الجالسين، غير قلق على حياة أي منهم، فهم أهله وأصدقاؤه، لا مطرح عنده للموت العشوائي والجماعي المجاني ... جاء من أجل هدف معين، اختاره بدقة، ومضى في طريقه بعد أن ترك جنود الجيش الذي لا يقهر، المزهو بتدنيسه قلب عاصمة المقاومة والثقافة والحرية والصمود، مضرجين بدمائهم.

اليوم، تبدلت الصورة واختلف المقام، ولكل زمان دولة ورجال ... شاب صيداوي، عمر العاصي (24 عاماً) ... قرر أن يضرب في قلب شارع الحمراء، مستهدفاً أبناء جلدته هذه المرة ... حمل على “وسطه”، أدوات القتل الجماعي العشوائي الجنوني، “ذئب منفرد” أو قاتل من ضمن مجموعة منظمة، لا فرق ... الموت هنا من أجل الموت وإشاعة الفوضى والخراب ... لا هدف ولا رسالة، كلما تراكمت الجثث كلما “تقرب إلى الله”، وكلما تناثرت الأشلاء، كان “الجهد مباركاً”، وكلما تسلقت الدماء جدران المدينة، كان “الثواب أعظم”... أية ثقافة سوداء هذه؟ ... وأي زمن هذا الذي يراد لنا فيه، أن نكفّر علوان ونحتسب العاصي عند الله شهيداً ... أي زمن هذا، الذي يتحول فيه “الجهاد” إلى أكبر وأقذر عملية انتحار ذاتي جماعي، يمارسها من هم محتسبين على الأمة، ومدعي النطق باسمها وتمثيلها؟
خالد علوان، حمل اسماً حركياً “ميشيل”، لم يكن هناك فرق بين ميشيل وعلي وحسين وعمر وعثمان ... الجميع منخرطون في حركة وطنية تحررية، رفعت راية العروبة والاستقلال والحرية والتحرير ... أما هذا “العاصي” فجاء رافعاً لواء التكفير، تكفير الجميع من دون استثناء، فلا أحد منّا على طريق الإسلام القويم، سوى “الفرقة الناجية”، التي هجر هؤلاء مجتمعاتهم إليها، وأعلنوا علينا حرباً لا هوادة فيها، لا تعرف التهدئات ولا الهدن، حرباً يتقربون فيها إلى الله، بقتل الرجال والنساء والشيوخ والأطفال من دون تمييز، ودائماً وسط صيحات “الله أكبر” ... أي صنف من البشر هم هؤلاء؟

لولا لطف الله وعنايته، ويقظة الأجهزة اللبنانية، لكانت بيروت على موعد جديد مع كارثة جديدة، وهي المدينة التي اكتوت بنيران السيارات المفخخة والعمليات “الاستشهادية”، تارة على يد “داعش” وأخرى على يد “طبعتها المحسنة والمنقحة”: “النصرة” ... لولا العناية الإلهية، لكانت عائلات كثيرة، تنتظر تشييع أبنائها وبناتها من مرتادي المقهى والمارين بالشارع المزدحم ... ولكانت تبخرت آمال اللبنانيين وأشواقهم، لدخول عام جديد، آمن ومستقر ومزدهر.

كلما مرت بمخيلتي مشاهد الشارع، والمقهى الذي لم يكن يبعد عن مكتبي هناك سوى بضع عشرات من الأمتار، كلما استرجعت الوجوه التي أمر بها كل صباح ومساء، لرجال وشباب وصبايا يتحدثون ويتهامسون ويقرأون صحف النهار، كلما سرت القشعريرة في عروقي ... ما ذنب هؤلاء، وكيف رأى فيهم القاتل ومشغلوه، أهدافاً مشروعة لعملياتهم الإجرامية ... كان يمكن أن أكون شخصياً في عداد الضحايا، كان يمكن أن أكون أنا أو أحد أصدقائي وزملائي وأفراد عائلتي “قرابين” لهؤلاء، لمجرد أننا نحب بيروت، ونحب أن نحتسي القهوة في مقاهيها الرصيفية، ونحب أن نفحص وجوه المارة وعابري السبيل.

أي إجرام هذا، وكيف لعقل بشري أن يسوغه ويسوقه، أن يبيعه ويشتريه ... إنه “طاعون العصر الحديث”، يلبس أقدس ثوب ليقارب أنجس الأفعال وأكثرها شيطانية وإجرامية ... لكأننا في كابوس لا نقوى على الاستيقاظ منه ... وكلما ظننا أننا نكاد نفيق ونطرد النوم عن جفوننا، فإذا بنا نصطدم بأننا إزاء واقع حقيقي معاش، ليس كابوساً ولا أضغاث أحلام ... إنه واقعنا الذي يحاصرنا من جهاتنا الأربع... وللإجرام بقية.

المصدر : صحيفة الدستور

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي من «الويمبي» إلى «كوستا» ومن علوان إلى العاصي



GMT 07:14 2021 الجمعة ,24 كانون الأول / ديسمبر

"العالم المتحضر" إذ يشتري البضاعة القديمة ذاتها

GMT 06:17 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

"فتح" و"حماس" ولبنان بينهما

GMT 06:13 2021 الأربعاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 06:18 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:45 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية
المغرب اليوم - أول رد فعل من داود حسين بعد إعلان سحب الجنسية الكويتية

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 16:24 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

ياسمين خطاب تطلق مجموعة جديدة من الأزياء القديمة

GMT 16:53 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب "الرجاء البيضاوي" يهدد بالاستقالة من منصبه

GMT 00:35 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

أسعار ومواصفات هاتف أسوس الجديد ZenFone AR

GMT 01:34 2016 الأربعاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

باي الشوكولاطة الشهي

GMT 07:04 2017 الإثنين ,09 كانون الثاني / يناير

القطب الشمالي يعدّ من أروع الأماكن لزيارتها في الشتاء
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib