النظرة للعلاقات السعودية – الإماراتية من علٍ، توحي بأن قيادتي البلدين، تقرآن من الكتاب ذاته، وأنهما تنخرطان في "حلف استراتيجي واحد"، وهي نظرة لها ما يعززها، فالبلدان خاضا حرباً ضروساً في اليمن وعليه، ولقد شكلا رأس حربة لما يُسمى بالتحالف العربي، قبل ستة أعوام... وهما فرضتا حصاراً على قطر، في إطار "رباعي عربي" ضمّ إلى جانبهما كلا من مصر والبحرين... ولطالما نظر البلدان إلى إيران بوصفها "العدو المشترك"، ولمواجهة هذا "التهديد"، أقام البلدان علاقات "خاصة ومتميزة" مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وشرعتا في "تطبيع" متفاوت المستويات والسرعات لعلاقاتهما مع إسرائيل... واشترك البلدان في النظر إلى تركيا بوصفها "تهديداً" إضافياً لأمن الممالك الخليجية، بالنظر لحلفها مع قطر، ودعمها لجماعات الإخوان المسلمين... إذن، ثمة مروحة واسعة من التفاهمات، شكلت أرضية صلبة لسياستيهما الخارجية والأمنية-الدفاعية.
لكن التحليق على ارتفاع أكثر انخفاضاً يشي بشيء مغاير، لا يقلل من شأن "المُشتركات"، بيد أنه يمكّن المراقب الحصيف، والدبلوماسي المحترف، من التعرف على "الفجوات" التي تباعد ما بين البلدين، وتقريباً في مختلف الملفات التي سبق ذكرها، ما يجعل الحديث عن "حلفٍ استراتيجي" بين أقوى وأغنى دولتين خليجيتين، أمراً مجافيا للحقيقة.
(1)
ولنبدأ من اليمن، إذ على الرغم من تزعّم البلدين للحرب في الجارة الجنوبية، إلا أنهما دخلتا الحرب، بأجندات مختلفة... بالنسبة للإمارات، فإن أكثر ما كان يهمها هو إحكام السيطرة على جنوب البلاد، وتشجيع القوى الانفصالية، على العودة إلى "دولة الجنوب"، وللإمارات مطامع في الموانئ والجزر اليمينية، وما أن تحقق لها مرادها، حتى أعلنت مبكراً "انتهاء الحرب"، واتخذت قرارها بالانسحاب من اليمن، من دون تشاور مسبق مع الرياض، فيما الحرب ستمتر لسنوات عديدة لاحقة، وستبلغ ذرى جديدة، وستطال شظاياها العمق السعودي، وتهدد "درة تاج" الصناعة النفطية للمملكة: أرامكو... الموقف الإماراتي المنفرد ترك جرحاً غائراً في قلب "التحالف"، وأحاط العلاقات "الأخوية والمتميزة"، بظلال كثيفة من الشك، وشجع مغردين سعوديين، وبعضهم مقرب من دوائر صنع القرار في المملكة، على توجيه انتقادات لاذعة، لمن "خانوا بلادهم" و"طعنوها من الخلف"... لا بل أن أصواتاً سعودية بدأت تهمس بسؤال: "من يقود من؟"، هل السعودية التي ظلت تلعب دوراً قيادياً في المنظومة الخليجية هي من تقود التحالف، أم أن مركز صنع القرار قد انتقل إلى "ديوان ولي العهد الإماراتي"؟
سعى وليّا عهد المملكة وأبوظبي، إلى طي صفحة خلافاتهما، وعندما أخفقا، جهدا في إبقائه خلف الأبواب المغلقة، بيد أن الخلاف السعودي–الإماراتي في اليمن، سيصبح "سراً ذائعاً"، وسيتحول إلى شكل من أشكال "حرب الوكالة"، طرفاها فريق "الشرعية" بقيادة عبد ربه هادي الذي يجاهر بعدائه للإمارات، والمجلس الانتقالي الجنوبي وميليشيات أخرى، مدعومة من أبوظبي... وسيأخذ هذا الخلاف، شكل "تصفيات" و"اغتيالات" وعمليات كر وفر، لم ينفع "اتفاق الرياض"، ولا ما سبقه أو لحقه، من بروتوكولات وخطط تنفيذية، في إيقافها... وسيدخل التجمع اليمني للإصلاح، كطرف في هذا الصراع، بعد عمليات "التصفية" المنظمة التي تعرض لها قادته وكوادره، من قبل حلفاء أبو ظبي.
(2)
وسنعرّج على الملف الإيراني، إذ على الرغم من تبلور قناعة مشتركة بجدية "التهديد الإيراني" لأمن الدولتين واستقرار المنظومة الخليجية، إلا أن وليي عهد البلدين انتهجا مقاربات متفاوتة من حيث شدتها وتشددها وأدواتها.. الإمارات بخلاف السعودية، حافظت على أكثر من "شعرة معاوية" مع إيران: أزيد من نصف مليون إيراني مقيم على أرضها، يمتلكون ألوف المؤسسات والشركات، ومليارات الدولارات من التجارة المتبادلة، واتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى لم تنقطع، وقنوات تنسيق أمنية خلفية، مكّنت الإمارات من تفادي صواريخ الحوثي وطائراته المسيّرة... كل ذلك كان يحصل في الوقت الذي كان فيه ولي العهد السعودي، يتهدد إيران بنقل الحرب إلى داخلها، ويحرض في العلن على برنامجيها النووي والصاروخي، وبالأخص، ضد دورها الإقليمي "المزعزع للأمن والاستقرار" في المنطقة، ويدعم، على نحو شبه علني، حركات معارضة إيرانية، انفصالية ومسلحة، ويخوض أكثر المعارك ضراوة ضد حلفاء طهران في الإقليم، ويحشد في مواجهتهم كافة القوى المحلية المتضررة من الهيمنة الإيرانية على بلدانهم.
والمفارقة أن المقاربة الأكثر "نعومة" في التعامل مع ملفات طهران الشائكة والمتشعبة، كانت تصدر عن الدولة التي ما انفكت تتحدث عن "احتلال إيراني" لجزرها الثلاث، في حين أن المقاربة الأكثر "خشونة" كانت تصدر عن الدولة التي لم تنفك طهران عن "مغازلتها" والسعي لتفتيح قنوات التواصل والحوار معها، باعتبار أن تحسين العلاقة معها، كفيل بتفتيح كافة الطرق بين طهران وبقية عواصم الخليج، وما وراءها، لكن "فجوة الثقة" جعلت المسافة السياسية بين ضفتي الخليج، أكثر اتساعاً مما هي عليه جغرافياً.
(3)
وسنتوقف عند الملف التركي، بأبعاده القَطَرية والإخوانية المترابطة والمتداخلة، فقد أتى حين من الوقت، بدا فيه أن ولي عهد أبوظبي وولي العهد السعودي، يتبنيان المقاربة ذاتها من هذا "التهديد"... لكن التطورات اللاحقة، ستظهر أن الأمر ليس على هذا القدر من التبسيط، فيما المستقبل القريب يشي باتساع الفجوة في مقاربتيهما لهذه الملفات.
كان واضحاً منذ البدء، أن الإمارات نظرت للدور التركي المتنامي في الإقليم، ولاسيما في السنوات السبع أو الثماني الفائتة، بوصفه خطراً يتقدم على التهديد الإيراني، ذلك أن أنقرة تحتفظ بعلاقة تحالف و"توظيف" لجماعة الإخوان المسلمين، التي تنظر إليها أبوظبي بوصفها تهديداً داخلياً وخارجياً رئيساً، فضلاً عن التحالف الذي توثقت عراه مع الدوحة، بعد أزمة حصار قطر... وقد بدا لبعض الوقت، أن السعودية والإمارات، تتشاطران الموقف ذاته، لاسيما بعد أن اشتدت حدة التوتر بين الرياض وأنقرة على خلفية اغتيال جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، وما استتبعها من تراشق إعلامي وسياسي وحرب اتهامات متبادلة بين الجانبين... ولقد خاض البلدان على نحو مشترك، عمليات "تعرّض" لتركيا، إن في الملف الاقتصادي والمالي الضاغط، أو في المسألة الكردية، وتحديداً في شمال سوريا.
مياه كثيرة ستجري في أنهار المنطقة، وستبدأ السعودية وتركيا بتبادل رسائل الغزل والرغبة في استئناف "العلاقات الأخوية – التاريخية"... أنقرة أدركت أن الخلاف مع الرياض من النوع القابل للاحتواء، فالسعودية بخلاف الإمارات، لم تذهب بعيداً في التصدي لتركيا في ليبيا ودعم الجنرال حفتر، وهي لم تتورط كثيراً في جنوب القوقاز، دعماً لأرمينيا في نزاعها مع أذربيجان، والسعودية لم تُتهم رسمياً بدعم "الانقلابيين" الأتراك، أو إقامة صلات مع الداعية فتح الله غولن، ولم تسع لبناء شبكات تجسس على أرضها، ولم تتورط في الحرب على "الليرة التركية"، وتلكم جميعها اتهامات كالتها أنقرة رسمياً وعلناً للإمارات.
وسنشهد على عودة الاتصالات الرفيعة بين الرياض وأنقرة: الملك سلمان يهاتف أردوغان عشية قمة العشرين الأخيرة، ووزيرا خارجية البلدين يجتمعان في النيجر على هامش مؤتمر دول التعاون الإسلامي، والرياض تتنصل من حملة "المقاطعة الشعبية" للبضائع التركية، وتؤكد أنها لم تؤثر على الميزان التجاري بين البلدين، وثمة ما يكفي من الشواهد، على قرب ذوبان الجليد الذي غلّف العلاقات التركية السعودية خلال السنوات الفائتة، وبما يترك الإمارات وحيدة في مواجهة تركيا.
ارتباطاً بهذا، يبدو أن المياه بين الرياض والدوحة، في طريقها للعودة إلى مجاريها، لاسيما بعد الجهود الأميركية المبذولة لتحقيق هذا الغرض، ودائماً بهدف تطويق إيران وحرمانها من مبلغ 100 مليون دولار سنوياً، عائدات تحليق الطيران القطري في الأجواء الإيرانية... ويُرجح أن المملكة حزمت أمرها على ما يبدو، لاستئناف العلاقة مع قطر، من دون انتظار بقية أطراف "الرباعي العربي"، وربما نشهد قريباً فتحاً لأجوائها وحدودها البرية مع قطر... هذا التطور، سيترك أبو ظبي مجردة من الدعم السعودي في خصومتها مع الإمارة المنافسة في الخليج.
لقد كان واضحاً منذ بعض الوقت، أن الدوحة أدركت "الفوارق" في حسابات "رباعي الحصار"، فأولت جل تركيزها على المصالحة مع الرياض، على أمل تحييدها... قطر لا تكترث كثيراً بالموقف البحريني، ولديها أوراق قوة في علاقاتها مع مصر: العمالة المصرية، و"ميزان القوى الإعلامية" بين البلدين الذي يميل لصالحها، والأكثر أهمية بالنسبة للدوحة، هو "عزل" أبو ظبي عن شركائها الثلاثة الآخرين، لاسيما وأن "المنافسة" وليس "التعاون" هي من ستظل تقرر شكل ومستوى العلاقات القطرية الإماراتية في المستقبل.
أما في ملف الإخوان المسلمين، فلا شك أن الرياض، التي طالما تحالفات مع الجماعة واحتضنتها، انتهجت مقاربة عدائية تجاهها في السنوات الأخيرة، إثر صعود نجم محمد بن سلمان، لكن العداء السعودي للإخوان يحتمل مقاربات براغماتية، بخلاف الحال مع الإمارات التي تميل لانتهاج مقاربة "استئصالية" للجماعة... الرياض، لم تجد مشكلة بوجود الإخوان المسلمين البحرينيين تحت قبة البرلمان، بوصفهم جميعة مشروعة، وهي أقامت علاقات تحالفية مع "إخوان اليمن"، واحتضنت قياداته ودعاته، في حين لا تدع الإمارات فرصة تمر، دون أن تشهر راية العداء للجماعة... ودائماً سيكون بمقدور المملكة الاعتماد على قنوات تعاون خلفية مع هذه الجماعات، إن استدعت الحاجة، ولديها ما تفتقر له الإمارات في هذا المجال: "دبلوماسية الحج".
(4)
وسننهي في هذه المقالة، عند أحدث شقاق بين المملكة والإمارات، في مجال الطاقة، ومسرحه "أوبيك +" هذه المرة، حيث قررت أبوظبي "التمرد" على الإدارة السعودية للمنظمة، والمضي في تقرير حجم حصتها من الإنتاج، بمعزل عن قرارات المنظمة، وبالضد من الرغبة السعودية بالاستمرار في خفض الإنتاج، ملوّحة بالانسحاب من عضوية المنظمة، ما حدا بوزير النفط السعودي، للاستقالة من رئاستها، فيما حبل الجدل والخلاف، غير المسبوق أيضاً، ما زال ممتداً، ويشي بمزيد من التباعد.
(5)
مستقبل مجلس التعاون
لطالما كانت العلاقة بين الدول الأعضاء الست في المجلس الخليجي، قائمة على معادلة "التعاون" و"التنازع"، وإذ تغلّب التعاون على التنازع فيما بينها لمواجهة التهديد الخارجي: إيران ونزعتها لتصدير الثورة، فمرد ذلك كان عائداً للدور القيادي المهيمن الذي طالما لعبته المملكة، حيال شقيقاتها الخمس الصغرى، فضلاً عن مكانتها كحاضنة للحرمين الشريفين.
لكن صعود الشباب لسدة الحكم في غير دولة خليجية، من جيل الأمراء الأبناء المتطلع للعب أدوار خارج حدود بلاده، وامتلاكه لتراكم هائل من عائدات النفط والغاز، جعل وسيجعل من الصعب، احتفاظ المملكة بدورها القيادي المتفرّد، وغلّب وسيغلّب "التنازع" على "التعاون" في علاقاتها البينية... وسيكون من الصعب على المملكة التي تواجه "خصوصية عُمانية" متوارثة، ونظاماً أكثر ميلاً للتوازن والاتزان داخلياً وخارجياً في الكويت، أن تبسط نفوذها المهيمن على قطر والإمارات بعد اليوم... هذه الصفحة في تاريخ المجلس الممتدة لأربعة عقود، طويت أو هي في طريقها إلى ذلك، وإلى أن يتمكن قادة الدول الست، من الوصول إلى صيغة جديدة لعلاقات القوى وآليات رسم السياسة وصنع القرار في منظومتهم الإقليمية، سيظل "التنازع" سمة غالبة على عمل المجلس وأدائه.
لم تعد الدول الست تقرأ التهديدات الخارجية، وبالأخصسبل مواجهتها، بالطريقة ذاتها، ولم تعد الدول الأعضاء، تكتفي بـ"المظلة السعودية" لحفظ أمنها واستقرارها، وتعظيم مصالحها وأدوارها... قطر تجد في تركيا حليفاً استراتيجياً موثوقاً أكثر من السعودية والإمارات، وعمان والكويت تعتبران التوازن في علاقاتها الخارجية شبكة أمان لأمنهما واستقرارهما الداخليين، فيما تنظر الإمارات إلى إسرائيل، بوصفها "تعويضاً" مناسباً، عن "المظلة السعودية"، وداعماً مهماً في مواجهة "التمدد" غير المسبوق، لكل من تركيا وإيران في الإقليم... هذا أمر مزعج للسعودية، وربما يفسر، من بين عوامل أخرى، سر "القرارات المتناقضة" التي اتخذتها الرياض مؤخراً، في مسألة فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية المتجه للإمارات، قبل دخول واشنطن على خط "الوساطة" لإزاحة هذه العقبة عن طريق التطبيع الخليجي – الإسرائيلي.
وإذا كان "تماثل" النظم السياسية "السلالية – البطريركية"، لدول مجلس التعاون، قد ساعد في إنجاح تجربة التعاون الخليجي، فإن التطلعات والطموحات التي يختزنها الجيل الجديد من الأمراء الشباب، سوف تقلص من أثر هذا العامل، بل وربما يصبح "التماثل" سبباً في استحداث "التنافر" في علاقاتها البينية، تماماً كما يحدث في فيزياء المجال المغناطيسي، لاسيما بغياب المؤسسية والتشاركية الديمقراطية في الحكم وصنع القرارات، وهذا ما قد يفسر رهانات البعض من النشطاء والمعارضين الخليجيين، على قرب انقضاء "شهر العسل" في العلاقة الوثيقة التي ربطت وليي العهد السعودي وولي عهد أبوظبي.