الفقر تراث وطني نرعاه كل يوم

الفقر تراث وطني نرعاه كل يوم

المغرب اليوم -

الفقر تراث وطني نرعاه كل يوم

بقلم - توفيق بو عشرين

يقول مثل تركي مشهور: «دخل أكبر، مشاكل أقل»، والعكس صحيح طبعا، هذا ما نعيشه بالضبط في المغرب. الكثير الكثير من المشاكل التي يعانيها الفرد والمجتمع سببها الفقر، الذي قال عنه علي بن أبي طالب: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». الفقر ليس رجلا، لكن الكثير من الرجال مسؤولون عن الفقر الذي يتكاثر مثل الأرانب في حقل الجزر.
الفقر لا يسلب ملايين المغاربة راحة البال، وسلامة الصحة، وجودة التعليم والسكن ونمط العيش، بل يشوه ثقافتهم وسلوكهم ونمط تفكيرهم في المجتمع، ويجعل أغلبهم مسلوبي الإرادة، مستسلمين للذل والهوان والظلم الاجتماعي. الفقر يجعل كرامتهم بلا قيمة، وحياتهم بلا قيمة، ومستقبلهم بلا مستقبل.
يقول البروفيسور جيمس هيكمان، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد: «إن الأطفال الذين ينشؤون في بيئات فقيرة ومحرومة لا تقل، فقط، احتمالات نجاحهم في المدرسة أو المجتمع، بل أيضا تتدنى فرصهم في أن يكونوا بالغين أصحاء».
كانت المجتمعات القديمة تعتبر الفقر ابتلاء من السماء، وكانت المسيحية ترى أن المؤمن الفقير أقرب إلى الله من المؤمن الغني، وكلما تعذب الإنسان في الأرض، خفف عن نفسه عذاب الآخرة، لكن، في القرنين الماضيين، تغيرت الثقافة الاقتصادية في العالم أجمع، وأضحى الناس يعتبرون الغنى والفقر من البشر وليسا من السماء، بل إن البروتستانتية لحقت بالإسلام، واعتبرت أن المؤمن الناجح في أعماله هو الأقرب إلى الله من المؤمن الفاشل، تماما مثل ما يقول الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير». لم يعد الغنى هو المشكل.. صار الفقر هو المشكل.
السياسات العمومية في بلادنا، وبعد مرور أكثر من 60 سنة على نيل الاستقلال، هي المسؤولة رقم واحد عن بقاء أكثر من 12 مليون مغربي تحت خط الفقر أو فوقه بقليل، وهذا الرقم، الذي ورد في خطاب الملك محمد السادس قبل سنتين، وهو وحده كاف ليكون عنوانا كبيرا لفشل المشروع الوطني المغربي. لا يحتاج الأمر إلى فلسفة ولا إلى تبرير ولا إلى جدال. البلاد التي مازال فيها ثمانية ملايين أمي لا يقرؤون ولا يكتبون، لا يمكن أن ترفع رأسها بين الأمم المتحضرة، لكن هناك مسؤولية جزئية كذلك للأفراد الذين يقبلون العيش في ظل الفقر وكأنه قدر من الله، في حين أن الله خلق رزقا كثيرا فوق هذه الأرض، لكن باب الرزق يفتح لمن يدفعه لا لمن يجلس عند مدخله ينتظر الصدقة أو الشفقة أو الإكراميات… نحن بلاد أصبح التسول فيها تراثا وطنيا ترعاه جهات عدة، وتسهر على دوامه واستمراره.
هذه القصة تلخص جزءا من مسؤولية الثقافة عن فقر أو غنى الأفراد… الحكاية ملخصها أن شابا ورث بقرتين، فماذا سيكون عليه حاله بعد عشر سنوات؟
إذا كان الشاب هندوسياً، سيقدس البقرتين ويرعاهما، ويقترض للإنفاق عليهما حتى يخرب بيته. أما إذا كان الشاب مغربيا في قرية نائية، فسيبيع واحدة ويتزوج بثمنها، ويرعى البقرة الثانية ليشرب من حليبها، ويبيع الباقي ليشتري به ما يحتاج إليه، وبعد عشر سنوات، سيكون حاله كما هو لا يتغير، فيما تبدأ إنتاجية البقرة في التدهور لأن عمر البقرة لا يزيد على عشرين عاماً. أما إذا كان الشاب في روسيا (الاتحاد السوفياتي آنذاك)، فسيطرق باب بيته مفتش الحزب الشيوعي، وتتكون لجنة حكومية تحدد تكلفة تغذية البقرتين، وأخرى لنظام حلب البقرتين صباحاً ومساءً، ولجنة ثالثة لتوزيع الحليب بالتساوي على أهل الحي… وبمرور الوقت، يتناقص نصيب الفرد في الحي من نصف لتر إلى ملء فنجان من الحليب، إلى ملعقة واحدة في العام العاشر، فتقرر لجنة حكومية رابعة أرسلتها موسكو للتفتيش أن تكلفة رعاية البقرتين تبلغ أضعاف كلفة الإنتاج، وتأمر بإنشاء لجنة خامسة للتحقيق في الأسباب، ثم تتخلى عن المشروع بعد أن يجف ضرع البقرة.
وإذا كان الشاب في إنجلترا، فسيبيع إحدى البقرتين، ويقترض من البنك بضمان الثانية، ليكوّن رأسمالا يمكنه من شراء ثور، وأغذية وأدوية ومعدات حديثة، ويتعاقد مع جمعيات زراعية للماشية وإنتاج الألبان واللحوم. يتكاثر الثور مع البقرة، ويؤجر الثور مرة في الأسبوع للتكاثر مع أبقار أعضاء الجمعية الزراعية (تجارة مربحة جداً لصاحب الثور في الريف الإنجليزي)… وبعد عشر سنوات، يكون لديه قطيع ومزرعة كبيرة ليس فقط للحليب، بل لمنتجات الألبان واللحوم وتلقيح الثور للأبقار، ويوظف مائتي شخص في مؤسسته.
نحن نعيش في مجتمع يعتبر أن النجاح هو المشكلة وليس الفشل، فيصير الغني متهما حتى يثبت براءته، والفقير بريئا لا تهمة فوق رأسه.. دخل أقل مشاكل أقل والعكس صحيح.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفقر تراث وطني نرعاه كل يوم الفقر تراث وطني نرعاه كل يوم



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 22:05 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

هوكشتاين يقول ما حصل في لبنان ليس هدنة بل اتفاق مستدام.
المغرب اليوم - هوكشتاين يقول ما حصل في لبنان  ليس هدنة بل اتفاق مستدام.

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة

GMT 08:05 2022 الأحد ,20 آذار/ مارس

مطاعم لندن تتحدى الأزمات بالرومانسية

GMT 15:13 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

شاب يذبح والدته ويلقيها عارية ويثير ضجة كبيرة في مصر

GMT 12:02 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

تعرفي علي اطلالات أزياء أمازيغية من الفنانات مغربيات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib