العالم يسأل عن الشرطي

العالم يسأل عن الشرطي

المغرب اليوم -

العالم يسأل عن الشرطي

غسان شربل
غسان شربل

يعرف الرجل أميركا. يعرف عدداً ممَّن توالوا على البيت الأبيض ومقري الخارجية ووزارة الدفاع. يعرف الأميركيين وعمل معهم عن قرب. لا يحتاج إلى من يذكّره بقدرة الإدارات الأميركية على ارتكاب أخطاء هائلة ومكلفة. تعلم أنَّ أميركا تنتمي إلى عالم آخر يصعب عليه في أحيان كثيرة الإحاطة بحجم الثارات النائمة في تاريخنا وحجم الكوابح التي تلجم تطلعاتنا إلى المستقبل. ينتقد الرجل السياسات الأميركية في أكثر من مكان، لكنه يعود ليستخلص أنَّ العالم يحتاج إلى قبطان أو شرطي، وأنَّ أميركا هي الوحيدة المؤهلة للقيام بدور من هذا النوع إذا لجمت قليلاً ممارسات التفرد وغرور القوة.

الصين ليست مؤهلة حتى الساعة للعب دور القبطان أو الشرطي. صعودها الأخير مثير للإعجاب والقلق في آن. ليس بسيطاً أن تزيحَ اليابان لتحتلَّ موقع الاقتصاد الثاني في العالم، وأن تشعر أميركا أنَّها مهددة بخسارة الموقع الأول ربما في غضون عقد أو أقل. صنعت الصين معجزة اقتصادية وتلاعبت بوصايا ماو تسي تونغ، لكنها لا تزال تحتفظ بالسيطرة المطلقة للحزب الشيوعي على كل مناحي الحياة. والحزب شبكة هائلة يقترب عدد أفرادها من ثمانين مليون شخص، وهو آلة استقرار واستمرار أي آلة قمع في نظر خصومه. لهذا حاول دونالد ترمب تعيين الحزب الشيوعي الصيني في موقع العدو الأول، أي في الموقع الذي كان يحتله «المأسوف عليه» الاتحاد السوفياتي.

روسيا ليست مؤهلة هي الأخرى للعب دور الشرطي إلا في أماكن محددة من العالم. ورثت الآلة الروسية عن السوفياتية قدرة استثنائية على التضليل. لكن الوقائع تشير إلى أنَّ استعادة روسيا الأنياب السوفياتية لا تعني استعادة الثقل السوفياتي الذي كان أقدر على العرقلة منه على تولي القيادة. ثمة من يعتقد أنَّ التجربة السورية نفسها تظهر محدودية القوة الروسية. بعد سنوات من التدخل لا تزال سوريا مسرحاً لحروب وتدخلات. إنقاذ النظام خطوة مهمة لروسيا، لكن مؤتمر المهجّرين الأخير كشف ضعف قدرات موسكو وفشلها في استقطاب دعم دولي وإقليمي لتتويج تدخلها العسكري بعملية لإعادة الإعمار تسهّل عودة المهجرين الموزعين على الخيام في الدول المجاورة.

أوروبا خرجت من السباق على قيادة العالم. يمكنها في أحسن الأحوال أن تلعب دوراً مساعداً للشرطي، لكنها لا تستطيع النهوض بأعباء مهمته. هرمت أوروبا فعلاً. ترهلت في غياب الحروب وأدمنت الأمن والازدهار والسلامة والعيش شبه الهانئ. لم تعد راغبة في دفع ثمن تغيير العالم ولم تعد قادرة. القاطرة الفرنسية - الألمانية ستزداد ضعفاً مع مغادرة ميركل في السنة المقتربة. بريطانيا تحولت عازفاً منفرداً قد يكتشف أنه أضاع الأوركسترا الأوروبية من دون أن يظفر بعقد غرام مع أميركا ما بعد ترمب.

لا يمكن أيضاً إسناد مهمة الشرطي إلى الأمين العام للأمم المتحدة. ولا علاقة للأمر باسمه أو ببلاده. قرارات مجلس الأمن تبقى بلا تنفيذ إن لم تتكئ على هيبة الأقوياء وفي طليعتهم سيد البيت الأبيض. روى لي نوري المسماري الذي كان مدير المراسم لدى معمر القذافي وظله في حله وترحاله قصة بالغة الدلالات.

جاء كوفي أنان إلى ليبيا للتحدث في موضوع تفجير لوكربي. قرَّر الزعيم الليبي إهانته وتخويفه وهذا ما حصل. طلب أن يأتوا إليه بالزائر ليلاً وأن يطفئوا الأنوار في المنطقة باستثناء الخيمة. كانت الخيمة منصوبة على بعد مائتي متر من الطريق الساحلية، لكن التعليمات كانت تقضي بالقيام بعملية التفاف طويلة قبل الوصول إلى المخيم. شعر أنان بالخوف خصوصاً حين سمع صوت الجمال. سأل المسماري إن كان هذا صوت أسود فطمأنه ولاحظ أن وجهه صار أبيض من شدة القلق. قضت التعليمات أيضاً بإعادة أنان عبر الطريق نفسها. حسني مبارك أخذوه إلى الصحراء فانزعج وقال: إذا كانت هناك صحراء في المرة المقبلة فلن أذهب إلى ليبيا، واضطر القذافي إلى مسايرته. في المقابل وحدها قوة أميركا أرغمت القذافي على البحث عن حل لأزمة لوكربي والتوقف عن إرسال المتفجرات براً وبحراً وجواً. خاف العقيد حين أرسل الشرطي الأميركي طائراته لتقصف مقره في ثكنة باب العزيزية. أصابه الذعر لاحقاً حين شعر أنه قد يكون مرشحاً لمصير يشبه مصير صدام حسين «ومن دون أن يمتلك شجاعة الرئيس العراقي التي لا تلغي ارتكاباته».

لا يستطيع العالم الإبحار من دون قبطان. يحتاج العالم دائماً إلى شرطي. صحيح أن الشرطي قد يرتكب أخطاء وخطايا، لكن ثمن غيابه أكبر من ثمن اضطلاعه بدوره. الشرطي حاجة دولية وإقليمية شرط السعي دائماً إلى عقلنة دوره وخفض جموحه عن طريق تعويم دور الأمم المتحدة والتشديد على ضرورة أن يتسع الملعب لأكثر من لاعب. قيادة العالم ضرورية لجبه المشاكل الكبرى. وحده شرطي بحجم الولايات المتحدة يمكن أن يطمئن الدول التي ترتعد فرائصها خوفاً من التنين الصيني. ووحده شرطي من هذا النوع يستطيع منع «الجيش الأحمر» من الوصول في الشراهة إلى حد اقتطاع أجزاء من القالب الأوروبي. ويصدق الأمر نفسه بالنسبة إلى ردع الذئاب الإقليمية ودفعها إلى التفكير أكثر من مرة قبل أن تدمي الخرائط المجاورة لها وتمزقها بالميليشيات والمرتزقة. قيادة المعركة ضد الأوبئة تحتاج أيضاً إلى شرطي يستطيع المشاركة في رقصة جماعية تتوزع فيها المسؤوليات والأدوار.

لا بدَّ من أميركا، يقول الرجل الذي يعرفها. ولكن لا بدَّ من أن تعرفها. وأن تتعلم لغة المصالح وتبدل المراحل والحسابات والأدوار. وأن تتعلَّمَ تعقيدات آلية صنع القرار في ذلك العالم الذي لا يشبهنا كثيراً وإن ذكرت تمزقاته أحياناً بتمزقاتنا. صحيح أن جو بايدن ليس من الصقور ودعاة الحروب، لكن أميركا ملزمة إلى درجة معينة بلعب دور الشرطي حتى لو امتنعت عن استخدام جيوشها وأساطيلها. يمكن الاضطلاع بدور الشرطي باستخدام أسلحة الاقتصاد والدبلوماسية والمناورات العسكرية المبهرة. وبانتظار انحسار آخر مناوشات الانتخابات الأميركية يسأل العالم عن موعد استئناف الشرطي الأميركي دوره. مارس ترمب شيئاً من دور الشرطي مستخدماً سلاح العقوبات. لكل رئيس أسلوبه في دور الشرطي. شرطي متغير في عالم تغير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العالم يسأل عن الشرطي العالم يسأل عن الشرطي



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 16:56 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل
المغرب اليوم - مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب

GMT 19:58 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة تكشف عن قدرات النمل في علاج نفسه والنباتات

GMT 16:57 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل مباراة الرجاء البيضاوي ورجاء بني ملال

GMT 13:23 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لعبة SPIDER-MAN الأكثر مبيعا داخل اليابان في سبتمبر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib