في ظل الوالد

في ظل الوالد

المغرب اليوم -

في ظل الوالد

مأمون فندي
بقلم - مأمون فندي

من المقالات شديدة الحساسية التي قرأتها مؤخراً ما كتبه الروائي الإسباني ماريو فرغاس يوسا («الشرق الأوسط» 3 يوليو 2024) عن علاقته بوالده، وكيف تمنَّى لو كانت علاقته بوالده مجرد صداقة كتلك التي بين رفيقه راموس، الذي كان والده يصطحبه إلى مباريات كرة القدم كلَّ سبت ويتحدثان كما لو كانوا رفاق دراسة، على العكس من علاقة ماريو بأبيه والتي وصفها بالكارثية.

شدَّني المقال، أنا الذي تجنبت الكتابة عن والدي منذ وفاته عام 2012 ولو رثاء، فالقرب من الأحداث يزعجني. والآن وقد ابتعدت قليلاً، أستطيع أن ألملمَ الحروف.

لم تكن علاقتي بأبي كارثية، ولم تكن صداقة في بدايتها، بدأت ببنوة حتى اللحظة التي ناداني فيها «يا اخي» ومن دون الهمزة على الألف، كانت ممدودة، وكذلك كانت علاقتنا، ممدودة، وكان ذلك بعد أن اقتربت من إنهاء دراستي الجامعية.

علاقتي بأبي مكانية، ومركزيتها صحن البيت حيث النخيل وشجرة ليمون ومكان للبهائم والطيور، وكان تحت شجرة الليمون سرير من سعف النخيل، وحصيرة نفترشها في المساء للسمر ونستظل بها في العصاري، وهكذا كان تقسيمنا للوقت أو الزمن، مساحات كبيرة، بين الصلاة والصلاة، أو بين مواعيد تناول الطعام أو بين أوقات السمر. وحدات الزمان ليست الساعات أو الدقائق، بل مساحات الحياة وأوقات الذكر، «ألا بذكر الله تطمئن القلوب». وكانت تلك عادات مصر القديمة أيضاً.

كان كل ما نخاف عليه في هذا البيت القديم هو ذلك النور الطبيعي، نور برائحة الليمون وطيبة السكان وتآلفهم، البيت مكان نوم ومعيشة ومكان عمل.

إذ كانت في البيت أيضاً عدة أنوال لنسج الحرير، فوالدي كان يعمل في نسج الحرير وتجارته، وكان الحرير رمزاً لا دلالة، رمزاً لتلك الخيوط الناعمة التي تربط القلوب بعضها ببعض، من أهل الدار وأهل الذكر وأهل الطريقة، وبهذا يمكن القول إن المفهوم الحاكم الأول في معمار علاقتنا (أبي وأنا) هو مفهوم النور والإضاءة. ولم تكن قد وصلت قريتنا الكهرباء حينها، فقد وصلتنا وعمري في السابعة عشرة؛ أي بعد إنهاء دراستي للثانوية العامة، حيث كنت أستذكر دروسي على لمبة كيروسين، وفانوس حلفاوي، مشكاة فيها مصباح. وقد بلغت الستين، وما زال أهلي يشكون من انقطاع الكهرباء؛ أي أنها أتت ولم تأت، بلغة فيروز تعي ولا تجي، ومع ذلك كان مبعث نورنا من دواخلنا. ورحل أبي وانطفأت كثير من مساحات الإنارة وبقيت الظلال، وكلما زرت بيتنا القديم التحف الظلال.

«اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ...» [النور35] .

كانت الآية واضحة في ذهن كل منا تماماً، دلالة واستعارة وصورة ورمزاً، فقد كانت المشكاة رفيق ليل، رغم أنني لا أذكر لحظات ظلام دامس وأنا أطوف حوله، فقد كان هناك دائماً نور. تحت الشجرة حيث كنت أستلقي إلى جواره، وكان اسمه عابداً، وكان له من اسمه نصيب، رجل طويل القامة أبيض البشرة في وجهه حمرة، لا يشبه أهل منطقتنا، فلربما خرج من النيل، أو خرج من الماء وعاد إلى الماء يوم وفاته، كان رجلاً ذا أفق واسع. قال لي، ونحن نمدد أجسادنا تحت الشجرة لحظة الغروب: لولا أن يقولوا إن الرجل قد ضلّ لقلت لك إننا يا ولدي في الجنة. قلت، وكان عمري ما يقارب السادسة عشرة: لا ضلال في هذا، «ولمن خاف مقام ربه جنتان»، وربما بيتنا إحداهما، أليس هذا قرآناً؟ والقرآن مفتوح على كل التأويلات، تكثيف لكلمات الله غير المنتهية، «ولو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي»، إذن لو تم فك التكثيف القرآني لكانت الكلمات ومعها التأويلات لا نهائية.

في العمران الأفقي المفتوح، والذي تختلط فيه فكرة الزمان بالمكان بالروح، متعدد الأبواب والمسارات، وربما الأبعاد، يحس الإنسان بمتعة لكل نفَس يخرج من الصدر، أو صوت يصدر من اللسان، أو هديل حمامة على النخلة أو شجرة الليمون. كل أحاسيسك في أعلى وأقصى درجات الانتشاء في عالم متكامل، موسيقى ونسيج وشبابيك وزينة من الطيور والأنعام.

ساعتها أدركت أن الجنة تشبه معماراً يسمح بانسيابية الروح والجسد معاً، لذلك يجب أن يبني كل منا البيت الذي يشبه روحه وحركة جسده وحركة مَن يحب؛ من بشر أو طير أو شجر. الكل يستطيع أن يبني بيتاً كبيتنا، تكون له جنته، كما كان بيتنا جنتنا، ولكن هذا يتطلب ثقة حضارة تكون حصانة ضد التقليد، وضد الموضة وضد الانبهار. علمني أبي، وما زلت أتعلم وأنا في ظلاله تحت تلك الشجرة، أن الأمر كله مفتوح على تأويلات عدة، عندما رأيته ممدداً جسداً عندما أخذ الله سرَّه، لم ينتبني حزنٌ، ونظرت إليه وتمنَّيت لو أن الموت هو حالة يُرفع فيها الإنسان إلى السماء كطائرة ورق، ويشهد المحبّون حالة الرفع هذه ويصفقون وهم يشاهدونها لحظة الصعود.

كنت طفلاً صغيراً يمسك بإبهامه، والذي بدأ لي وكأنَّه جذع شجرة لا إصبع رجل أستند إليه في لحظات الخوف، كلما تذكرت هذا فهمت لماذا وضعت بعض القبائل في أفريقيا وآسيا الأجداد موضع القداسة. لا شك في أن الأب مقدس، ولهذا ما زلت أعيش في ظل أبي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في ظل الوالد في ظل الوالد



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 22:05 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

هوكشتاين يقول ما حصل في لبنان ليس هدنة بل اتفاق مستدام.
المغرب اليوم - هوكشتاين يقول ما حصل في لبنان  ليس هدنة بل اتفاق مستدام.

GMT 15:34 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام
المغرب اليوم - سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة

GMT 08:05 2022 الأحد ,20 آذار/ مارس

مطاعم لندن تتحدى الأزمات بالرومانسية

GMT 15:13 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

شاب يذبح والدته ويلقيها عارية ويثير ضجة كبيرة في مصر

GMT 12:02 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

تعرفي علي اطلالات أزياء أمازيغية من الفنانات مغربيات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib