ثورة على الثورة

ثورة على الثورة

المغرب اليوم -

ثورة على الثورة

سليمان جودة
بقلم: سليمان جودة
تحوّلت الشابة الإيرانية مهسا أميني إلى ما يشبه كرة الثلج، التي تظل تتضخم كلما تدحرجت، والتي يظل حجمها يكبر ويكبر كلما انحدرت أكثر.

والذين قرأوا قرار النائب العام الإيراني إلغاء شرطة الأخلاق، لا بد أنهم قد راحوا يفتشون عن أسبابه البعيدة، لأنهم بالطبع يعرفون أسبابه القريبة.
أما أسبابه القريبة فهي الاحتجاجات التي انطلقت في إيران مع بدايات الخريف على يد بعض الفتيات، ثم ما لبثت أن اكتسبت فتيات أكثر، واجتذبت إليها سيدات أكثر وأكثر.. ومع مرور الوقت انضمت فئات أخرى إلى الفتيات والسيدات، وبالذات طلبة وطالبات الجامعات، وبدت الاحتجاجات وهي تشتد في مرحلة بعد مرحلة ويتسع نطاقها، وبدت حكومة المرشد علي خامنئي وهي توشك أن يفلت منها الزمام.
كانت هذه هي الأسباب القريبة التي كنا نتابعها على مدى أسابيع مضت، ولم تكن المشكلة في الاحتجاجات في حد ذاتها، ولكن المشكلة كانت في استمرارها ودوامها، وكانت المشكلة في سياسة النَفَس الطويل التي ميزتها، أما الأسباب البعيدة كانت في الحقيقة سبباً واحداً، وكان هذا السبب هو مهسا أميني.
وكانت مهسا قد تعرضت للضرب والتعذيب على يد أفراد في الشرطة الملغاة، ومن شدة ما تعرضت له فإنها فقدت حياتها. وفي لحظات صارت وكأنها بوعزيزي، الذي أشعل الثورة في تونس أيام ما يسمى الربيع العربي، ورأيناها وكأنها عود الثقاب الذي يشتعل بالقرب من كوم قش كبير.
وعلى مدى أسابيع هذه الثورة التي أشعلها مصرع مهسا، كان نظام حكم المرشد لا يكاد يصدق عينيه، وكان يتابع ما يجري على أرض بلاده وهو لا يدري ماذا يحدث ولا ماذا بالضبط يجري، وكان يتابع في كل الحالات وهو بين مصدق ومكذب: كان بين مصدق لأنه يرى الحاصل بعينيه، وكان بين مكذب أن يكون جيل أحفاد الثورة على هذه الدرجة من الجرأة عليه.
وليس تعبير «أحفاد الثورة» من عندي، ولكنه تعبير أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يتابع مع العالم اتساع نطاق الحريق الذي يمسك في جلباب المرشد.
ولا يشير تعبير الرئيس الفرنسي إلى شيء، قدر ما يشير إلى أن ما نراه أمامنا من جانب أحفاد الثورة، هو بمثابة ثورة منهم على الثورة التي قام بها الخميني في .
وعلى طول الفترة من موت مهسا واشتعال الثورة إلى اليوم، كان نظام المرشد يتهم جهات خارجية بإشعالها، وكان يخص الولايات المتحدة الأميركية بهذا الاتهام، وكان يردده بلا توقف، وكان يقمع المحتجين ويتعهد بالمزيد من القمع، وكان يكتشف في كل المرات أن ذلك كله لا ينتج في أصل الدعوى كما يقول أهل القانون.
ولم يكن ينتبه إلى أن حضور الجهات الخارجية مسألة واردة، وأن وجود المحرضين من خارج إيران أمر جائز، وأن هذا على بعضه قائم بين الدول وبعضها، وليس بين طهران وواشنطن فقط، إذا افترضنا أن العاصمة الأميركية كانت تحرض بالفعل، ولكن ما لم يكن يريد أن يراه في الوقت نفسه، أن التحريض من جانب أي جهة خارجية لا يؤدي إلى شيء، ما لم تكن الأرض في الداخل جاهزة، وخصبة، ومهيأة لأن تستقبل.
وكان في قرار إلغاء جهاز شرطة الأخلاق ما يقول إن حكومة المرشد قد أفاقت، حتى ولو كانت إفاقتها متأخرة، وأنها قد أقلعت عن عنادها، حتى ولو كان إقلاعها متأخراً. وكان قرار الإلغاء يقول إن الخطأ كان في ضرب مهسا وتعذيبها، ولكنه كان أيضاً في إنشاء جهاز بهذا المسمى في الأصل.
وكان في قرار الإلغاء معنى آخر أعمق، وكان هذا المعنى أن الشباب الإيراني يرفض الوصاية التي تمارسها عليه حكومته، من خلال جهاز لا مثيل له لدى أي حكومة، وكان في استمرار الاحتجاجات كل هذه الأسابيع ما يقول إن الرفض هو للوصاية كفكرة، قبل أن يكون رفضاً لشرطة الأخلاق كجهاز، وقبل أن يكون رفضاً للاعتداء على حياة الشابة التي ماتت.
كان هذا هو المعنى الذي رأته حكومة المرشد بالتأكيد، ولو لم تكن رأته ما كانت قد اتخذت قراراً يتعامل مع أصل المشكلة لا مع المشكلة ذاتها.
ولو شاءت حكومة خامنئي لكان عليها أن تلتفت منذ الآن إلى أن الحريق الذي أمسك في جلباب المرشد، لأسباب تتعلق بوصاية داخلية رفضها الشباب، يمكن أن يشتعل في طرف آخر من الجلباب ذاته لأسباب تتعلق بوصاية خارجية من نوع مختلف.
فالوصاية في الداخل دفعت شباباً في أنحاء البلاد إلى أن يرفع راية العصيان، ولكن الوصاية في الخارج نطاقها أوسع بكثير، لأنها ممتدة من بغداد، إلى دمشق، إلى بيروت، إلى صنعاء، وهي عواصم ترسل الإشارات إلى المرشد من فترة إلى فترة، وفي كل إشارة تقول إن الوصاية التي تحاولها حكومته عليها مرفوضة، وأن شعوب هذه العواصم لا تقر بها ولا تقبلها.
وليس من الصعب رصد إشارات كهذه لا تتوقف العواصم الأربع عن إرسالها، ولا ترغب في شيء قدر ما ترغب في أن يحسن خامنئي قراءة ما ترسله. والأمل هو في أن تجد الإشارات الصادرة من العواصم الأربع مَنْ يجيد قراءتها بين رجال المرشد، وأن تكون القراءة من تلقاء نفسها ومنذ الآن، قبل أن يأتي وقت تقرأها فيه طهران وهي مرغمة، ثم وهي مضطرة كما حدث في موضوع شرطة الأخلاق.
فالاحتجاجات القائمة ليست الأولى، وإن كانت الأولى من نوعها، ومن قبل كان كل احتجاج يرسل أكثر من إشارة مبكرة في كل مرة، ولكن أحداً ممن حول المرشد لم يكن يريد أن يرى، وإذا رأى فإنه لم يكن يريد أن يقرأ ما ترسله الاحتجاجات واحداً بعد الآخر.
فلما سقطت أميني، ولما خرجت الفتيات والسيدات احتجاجاً، ولما دامت الاحتجاجات أسبوعاً، واثنين، وثلاثة، وعشرة، لم يكن هناك مفر من القراءة، ولم يكن هناك بديل عن الانتباه، ولم يكن هناك طريق آخر غير طريق الالتفات إلى ما لا هرب منه ولا من معناه.
وما يجوز من الغضب بين الإيرانيين في الداخل، يجوز بين الشعوب التي تواجه الوصاية الإيرانية في الخارج، لأن الرغبة في فرض الوصاية واحدة في الحالتين، ولأن الوصاية واحدة أيضاً، واختلافها من حالة إلى حالة هو اختلاف في النوع، وليس اختلافاً في الدرجة. وما قام به الشباب في الداخل، يمكن جداً أن تقوم به الشعوب في العواصم الأربع في الخارج، ويمكن أن يفاجئ إيران في جوارها، بمثل ما فاجأتها انتفاضة الشباب بما لم تكن تتوقعه، ولا كانت تتحسب له أو تنتظره.
قرار إلغاء جهاز شرطة الأخلاق ليس قراراً في الهواء، ولا هو قرار من فراغ، ولكنه قرار يحمل بين طياته توجهاً خفياً نحو تعديل سلوك الحكومة مع مواطنيها، ولا تحتاج الحكومة نفسها إلى شيء قدر حاجتها إلى قرار آخر يعدل من سلوكها في الإقليم، لأنه سلوك ينذر بانتفاضة أوسع، وأعنف، وأشد.
لقد غاب عن حكومة المرشد أن ترى بدايات رفض الوصاية في الداخل، ولكن أمامها أن ترى بوادر رفض الوصاية في الخارج وهي تولد في الأفق وتتشكل.
والأهم أن تكون طهران جادة في قرار إلغاء شرطة الأخلاق، وألا يكون القرار مجرد شكل تمتص به الغضب، وألا يغلب الطبع على التطبع في الموضوع.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثورة على الثورة ثورة على الثورة



GMT 13:57 2024 الإثنين ,05 آب / أغسطس

محاصر بين جدران اليأس !

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

«مسار إجبارى».. داش وعصام قادمان!!

GMT 10:52 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الفوازير و«أستيكة» التوك توك

GMT 10:49 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الأخلاقى والفنى أمامنا

GMT 10:47 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

ذكرى عودة طابا!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 22:05 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

هوكشتاين يقول ما حصل في لبنان ليس هدنة بل اتفاق مستدام.
المغرب اليوم - هوكشتاين يقول ما حصل في لبنان  ليس هدنة بل اتفاق مستدام.

GMT 15:34 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام
المغرب اليوم - سعد لمجرد يكشف عن عمل جديد مع الفنانة إيلي أفرام

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة

GMT 08:05 2022 الأحد ,20 آذار/ مارس

مطاعم لندن تتحدى الأزمات بالرومانسية

GMT 15:13 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

شاب يذبح والدته ويلقيها عارية ويثير ضجة كبيرة في مصر

GMT 12:02 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

تعرفي علي اطلالات أزياء أمازيغية من الفنانات مغربيات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib