الصين من الردع النقدي إلى النووي

الصين من الردع النقدي إلى النووي

المغرب اليوم -

الصين من الردع النقدي إلى النووي

إميل أمين
بقلم - إميل أمين

عرفت الأوساط العالميّة طوال سنوات الحرب الباردة، مصطح توازن الردع النوويّ، حيث حرصت كل من الكتلتَيْن الشرقية والغربية، حلف وارسو وحلف الأطلسي، على وجود مستوى متقارب من حيازة الأسلحة النووية، بما يقطع الطريق على أي جانب للانزلاق في مغامرة نوويّة، ذلك أنه يدرك جهوزية الآخر النووية، وأنّ الردّ سيكون كارثيًّا، وهي حرب لا تعرف المنتصر ولا المهزوم.

ذات مرة من خمسينيات القرن الماضي سألوا العالم الفيزيائي الأميركي الشهير ألبرت أينشتاين ذات مرة: "كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، فأجاب: "ما أعرفه هو أن الحرب العالمية الرابعة سوف تخاض بالأحجار والعصيّ، في دلالة على ما ستؤول إليه البشريّة حال الدخول في حرب نووية عالمية ثالثة، والجواب كفيل بمعرفة ما ستؤول إليه الأمور.

غير أنه بعد نحو ثلاثة عقود ونصف تقريبًا من انهيار الاتحاد السوفيتي، وما لحق بدوله من هوان ومذلة من جانب الناتو، ها هي روسيا الاتّحادية الوريث الشرعيّ تعاود التسلّح بما يدخل العالم برُمّته في دائرة الفوضى النوويّة من جديد.

لكن الجديد والأكثر إثارة في حاضرات أيّامنا، هو ما تقوم به الصين من تحوّلات لجهة الردع النوويّ، بعد أن تحقَّقَ لها ما أرادت من ردع نقدي.. ماذا يعني ذلك؟

باختصار غير مُخلّ، تبدو قصة الصين، بالضبط، كما قصص القوى الدولية البازغة، حيث تنشط جيدًا في الداخل، ويزداد نموُّها، ثم لا تلبث أن تضحى تجربة اقتصاديّة رائدة، لا تنفك تمتدّ إلى الخارج عبر قنوات الاستثمار والشراكات مع بقيّة الأمم والشعوب، وهوما فعلتْه الصين بالفعل منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعبر أربعة عقود تحوّلتْ إلى قوة ردع نقدي، سواء عبر استثماراتها في سندات الخزانة الأميركية، وإن بدأت في تراجعها مؤخرًا، أو من خلال استدعاء أفكار من باطن التاريخ الصينيّ القديم، مثل طريق الحرير الذي كان يومًا ما مضرب الأمثال، واليوم تحول إلى "مبادرة الطريق والحزام"، تلك التي تُعَزِّز من فكرة قوة الردع النقدي للصين، في مواجهة الهيمنة الاقتصادية الغربية عامة، والأميركية على نحو خاصّ.

غير أن الفصل الجديد في قصة الصين هذه الأيام، هو فصل الردع النووي، والذي يُعَدّ تنفيذًا حرفيًّا للقوى القطبية الكبرى حين يشتدّ عودُها وتحتاج إلى حماية مصالحها الاستراتيجية حول العالم، وحتى لا تبقى رهينة قرارات قوى قطبية أخرى.

منذ أكثر من عامَيْن والأجهزة الاستخبارية الأميركية ترصد بناء الصين لما أطلقوا عليه "سور الصين النوويّ الجديد"، حيث أظهرت الأقمار الاصطناعية، حواضن لتلك الصواريخ يجري إعدادها في باطن الأرض، تحسُّبًا لملئها بصواريخ باليستية حاملة رؤوسًا نوويّةً.

ولعلّ السؤال الأول الذي يبادر ذهن القارئ: "هل تستغل الصين حالة السيولة الجيوسياسيّة العالميّة، ناهيك عن المخاوف من حدوث فوضى في الداخل الأميركي غداة الانتخابات الرئاسية القادمة، وتسارع إلى تنفيذ برامجها النووية الاستراتيجية الجديدة؟

الشاهد أن الصين تعرف كيف تستفيد جيدًا من كافة الظروف، وحتى السلبية منها، وتحولها إلى زخم إيجابي، وهذا مردّه العقلية الفلسفية الكونفوشيوسية.

ترى الصين اليوم أميركا في مواجهة عقبات داخلية عديدة، منها ما هو اقتصاديّ، وما هو عسكريّ، حيث فخاخ عدة منصوبة لواشنطن بعضها في الشرق الأوسط، والآخر في الخليج العربي، ناهيك عن الجرح الثخين المفتوح في أوكرانيا، والذي يبدو ملتهبًا جدًّا في الأيّام الأخيرة، وينذر بِرَدّات فعل غير متوقّعة من القيصر بوتين، والذي تعرض لضربات موجعة ومؤلمة على الحدود من بلاده.

أما أكثر الأمور التي تخيف الصين بالفعل، فموصول بالصراعات الداخلية الأميركية، والخوف من أن تحدث حرب أهلية بين الأميركيين أنفسهم في الغد القريب.

الذين لهم دالّة على شؤون العلاقات الصينية – الأميركية والعكس، يتذكرون جيدًا أنه غداة الفوضى التي جرت في ساحة الكونغرس الأميركي في السادس من يناير 2021، كيف أن رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي قام بالتواصل مع نظيره الصيني الجنرال لي زوتشينغ، بعد أن رصدت الأقمار الاصطناعية الأميركية تحركات نوويّة صينيّة.

طمأن الأميركي الصيني بأن كل شيء تحت السيطرة، غير أن التجربة ربّما تركت تأثيرًا سلبيًّا عند الصينيّين ، عززت من توجّههم نحو مزيد من القوة النوويّة.

هل المخاوف من أميركا فقط هي التي تدفع الصينيّين في طريق حيازة المزيد من الرؤوس النووية؟
الجواب قد يكون حقًّا مفاجأة، ذلك أن بكين تنظر لنفسها اليوم وكأنها واقعة بين مطرقة واشنطن النوويّة، وسندان موسكو المغرقة في النوويّ بدورها.

هنا قد يقول قائل إن الخوف مشروع من أميركا، لكن روسيا دولة صديقة للصين، فكيف يستقيم ذلك؟
ظاهريًّا يبدو المشهد من بكين إلى موسكو بالفعل في شبه تحالف، لكنه في واقع الأمر تحالف براغماتيّ مؤقت، ذلك أن الطبقات الحضارية السلافية الأرثوذكسية سياسيًّا في روسيا، لا تتسق في الحال ولا الاستقبال تاريخيًّا مع نظيرتها الكونفوشيوسية الصينيّة، ولهذا يقطع الصينيون بأن موسكو هي التهديد الأقرب، وأن التقارب الحالي، هدفه مواجهة الهيمنة الاميركية العالميّة.

بالقدر نفسه يعلم الروس الذين لا يتجاوزون 150 مليونًا، أنه من دون ترسانتهم النووية، يمكن للصين ذات المليار وأربعمائة مليون نسمة، أن تكون عند لحظة بعينها تهديدًا حياتيًّا خطيرًا للقومية الروسية.
في آخر تقارير معهد ستوكهولم الدوليّ للسلام المستقل، نقرأ أن الصين تسارع إلى مضاعفة مخزونها النووي مما يقدر بـ 500 رأس حربيّ إلى 1000 بحول العام 2030.

لم يَعُدْ سرًّا أن الزعيم الصيني شي جين بينغ، يرى أن بناء قوة نووية ردعٌ ضروريٌّ له "حيث إن له تاثيرًا نفسيًّا عميقًا على التصوّرات الأميركية والغربية لتوازن القوى الدولية".

تاريخيًّا وعلى مدى عقود، سعتْ الصين إلى بناء والحفاظ على قدرة نووية ذات مصداقية للضربة الثانية، وقد فعلت ذلك لتأمين علاقة من الضعف المتبادل مع الولايات المتحدة الأميركية، فهل حان الوقت الآن لتغيير هذه الاستراتيجيّة من مرحلة الاستضعاف إلى الجهوزية المتبادلة؟

المقطوع به أن الطريق طويل لوصول بكين إلى حيازة أكثر من خمسة آلاف رأس نوويّ تمتلكها واشنطن، بخلاف ما هو غير مُعلَن عنه.

لكن الواقع هو أن حربًا نوويّة بين واشنطن وبكين، لا تحتاج إلى مثل هذه الأرقام الهائلة، إذ يكفي بضع عشرات وليس مئات من هنا وهناك لوقوع ملايين البشر ضحايا على الجانبَيْن.

هل العالم في عودة إلى الصراع النوويّ من جديد؟

الشاهد أنه خُيِّل للجميع بعد تفكيك الاتّحاد السوفيتيّ أن شبح المواجهة النووية قد اختفى ومخاوفها قد تلاشت، لكن تَبَيَّنَ للجميع لاحقًا أن توازنات الردع النووي هي من منعت نشوب حرب في وقت الصراع البارد، والآن تجاوز مشهد العلاقات الدوليّة زمن الحرب الباردة، وها هو من أسف شديد ينحو اتّجاه الساخنة، وبات على كلّ طرف قطبيّ قائم أو قادم، حماية مكتسباته وحضوره الدوليّ ولو عبر المزيد من الخطر الرهيب المتمثّل في الأسلحة النوويّة.

ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟ القول إن برامج تجديد القدرات النوويّة الأميركيّة، والتي بدأتْ تتسرّب للإعلام العالمي حكمًا هي السبب في سعي الصين وغيرها من دول العالم لامتلاك النووي من جديد.. ماذا عن تلك البرامج؟ إلى قراءة أخرى بإذن الله.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصين من الردع النقدي إلى النووي الصين من الردع النقدي إلى النووي



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 15:27 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

هنغاريا تدعم مخطط الحكم الذاتي المغربي لتسوية نزاع الصحراء
المغرب اليوم - هنغاريا تدعم مخطط الحكم الذاتي المغربي لتسوية نزاع الصحراء

GMT 09:19 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن
المغرب اليوم - فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة

GMT 08:05 2022 الأحد ,20 آذار/ مارس

مطاعم لندن تتحدى الأزمات بالرومانسية

GMT 15:13 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

شاب يذبح والدته ويلقيها عارية ويثير ضجة كبيرة في مصر

GMT 12:02 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

تعرفي علي اطلالات أزياء أمازيغية من الفنانات مغربيات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib