حلم القذافي بحكم بريطاني

حلم القذافي بحكم بريطاني

المغرب اليوم -

حلم القذافي بحكم بريطاني

بكر عويضة
بقلم - بكر عويضة

ربيع عام 1990، اندلعت موجة تظاهرات شعبية في عدد من شوارع مدن بريطانيا، احتجاجاً على قانون ضرائب جديد قررت رئيسة الوزراء، مارغريت ثاتشر، المضي قُدماً في تطبيقه، رغم انتقادات حادة واجهته خلال مداولات مجلس العموم، من جانب ممثلي كل الأحزاب، بما فيها حزب «المحافظين». النظام الضريبي المثير للجدل، ومن ثم المتسبب لاحقاً في أحداث شغب، حمل اسم «ضريبة الرؤوس»، تعريباً للمصطلح الإنجليزي «POLL TAX»، وهو لم يكن ابتكاراً من قِبل «السيدة الحديدية» - التي كثيراً ما رُميت باتهام تخليها عن طبقتها الوسطى بعدما صعدت منها إلى طبقات مؤسسة الحكم - إذ سبق العمل به في عصور سابقة، وليس في بريطانيا وحدها، بل في دول عدة، وأتت تسميته تلك من كونه يحدد ضريبة الدخل وفق عدد البالغين في كل عائلة يقيم كل أفرادها في بيت واحد، بصرف النظر عن اختلاف المستوى الطبقي، وبالضرورة تباين الحال المعيشي، بين شرائح المجتمع. واضح، حتى لأشد عتاة تأييد الاقتصاد الرأسمالي، كم يحمل نظام ضريبي كهذا من ظلم واقع على ذوي الدخل المحدود عموماً، وقطاع الفقراء خصوصاً.
أكبر حدث شغب لفت الأنظار عالمياً بين موجة المسيرات الشعبية تلك، كان الذي وقع نهار السبت الموافق 31 من مارس (آذار) 1990، ذلك أن جانباً من المواجهات بين بعض، وليس كل، المحتجين على قانون «ضريبة الرؤوس» تطور إلى صدامات دامية، أفضت إلى وقوع عدد كبير من الجرحى، تجاوز المائة، سواء في صفوف عناصر الشرطة، نساءً ورجالاً، بل وأحصنة أيضاً، أو المتظاهرين أنفسهم، وفاق عدد المقبوض عليهم وعليهن ثلاثمائة. يومذاك، لم يُضيع العقيد معمر القذافي، زعيم ليبيا الزاعم منذ سنين عدة سبقت مجيء مارغريت ثاتشر نفسها للحكم، أنه «قائد الثورة العالمية»، فرصة بدا له أنها لاحت كي يجدد ذلك الزعم ذاته، فسارع يوعز لأجهزة إعلامه أن تتابع الحدث البريطاني من منظور يدعي أن شعب بريطانيا تبنى «النظرية الثالثة»، وأنها تقترب من قيام «حكم جماهيري»، مماثل لنظام «الجماهيرية العظمى» القائم في ليبيا.
الواقع أن تلك الواقعة لم تك الأولى من نوعها، فما من تطور مفاجئ وقع بأي بلد، في مشارق الأرض والمغارب، متمثلاً بمسيرات احتجاج على إجراءات اقتصادية محددة، ترتب عليها غلاء أسعار، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف العيش، ومن ثم صدامات بين الناس وأفراد الشرطة، أو الجيش، إلا سارع القذافي لتوظيفها في سياق أنها تتماهى تماماً مع المنهج الذي تخيل أنه هو من وضع وصمم، بمعنى أن ليس من أحد غيره سبق أن نادى به، وذلك غير صحيح إطلاقاً، وأنه بالتالي الأنموذج الوحيد الصالح لتطبيق «حكم الشعب»، وفق تصور «ثورة الفاتح العظيم». الحق أن ذلك الوهم ما شكل أي مشكل للعقيد القذافي شخصياً. على النقيض من ذلك، كان الرجل مقتنعاً تمام الاقتناع أنه مكلف بما توهم أيضاً أنه رسالة للعالم أجمع. المشكل أن خيال «المفكر الفذ»، أو «القائد المعلم» - كما تضمنت قائمة الأوصاف الخاصة به - إنْ فيما يخص ترويج «النظرية الثالثة»، أو نشر وتوزيع نص «الكتاب الأخضر» - كلف ليبيا فوق طاقتها بكثير، وحمل الليبيين بأكثر مما يتحملون، طوال سنوات الزمن القذافي منذ أطلت فجر أول سبتمبر (أيلول) عام 1969 إلى أن بدأ انهيار النظام في فبراير (شباط) 2011.
إنما، هل أدى انهيار حكم «الفاتح من سبتمبر» إلى تعافي ليبيا، والبدء في بناء غد أفضل؟ الأرجح أن يُطرح هكذا سؤال من قِبل كثيرين مع إطلالة الذكرى الثالثة والخمسين غداً لما جرى ذلك اليوم. كلا، بالطبع. سوف يصدع بهذا الجواب كثيرون أيضاً من منطلق أنه نابع من وقائع ما تشهد ليبيا. هو جواب مُحق عن سؤال مشروع. أما الجانب الواضح لكل ذي بصيرة، فخلاصته أن تعافي ليبيا يحصل حقاً حين تستطيع الأطراف الليبية، التي تتصارع على بقايا بلدها، أن تنجح في التوصل إلى اتفاق قائم بالفعل على صفاء النيات، بلا سابق شروط تمليها عصبيات قبلية، وبلا أي ضغوط تمارسها قوى خارجية، سواء كانت من دول حلف «الناتو»، أو التي تدور في الفلك ذاته. حتى يتم ذلك التلاقي الصادق، والمأمول من جانب كل ليبي، وكل محب لليبيا وأهلها، سوف يظل صراع «الأخوة الأعداء» يختطف الأرواح، ويدمي القلوب، ويأكل من مستقبل ليبيا الأفضل.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حلم القذافي بحكم بريطاني حلم القذافي بحكم بريطاني



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة

GMT 08:05 2022 الأحد ,20 آذار/ مارس

مطاعم لندن تتحدى الأزمات بالرومانسية

GMT 15:13 2021 الجمعة ,29 تشرين الأول / أكتوبر

شاب يذبح والدته ويلقيها عارية ويثير ضجة كبيرة في مصر

GMT 12:02 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

تعرفي علي اطلالات أزياء أمازيغية من الفنانات مغربيات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib